جاء استيقاظ العرب في الدول التي تحكمها الدكتاتوريات كردة فعل على ممارسات سلبية من قبل الأنظمة استمرت عقوداً من قمع وانتهاك للحريات ونشر للفساد ونهب للثروات و"تأليه" للأفراد، وصار كل ما يصدر عن الحاكم المطلق أمراً غير قابل للنقاش، وباتت أقواله حكماً مقدسة تكتب بالخط العريض على اللافتات والجدران، وتصدر عنها المؤلفات. وأصبح القائد "الفرد" القادم من الجيش إلى السلطة عبر انقلاب مفكراً بين ليلة وضحاها.. فإن ألقى كلمة في مناسبة ما أخذ المصفقون زمناً أطول من الكلمة أثناء إلقائها، وراحت وسائل إعلامه الرسمي تمجد كلمته "التاريخية" وتستقطب المحللين لاستكشاف مواطن الرؤية المستقبلية والعظمة في ثناياها.. كل ذلك يحدث من غير التفات إلى رفع مستوى معيشة المواطن الإنسان الذي يمتلك شعوراً وعقلاً يميز به الخطأ من الصواب، ويدرك أن الأخطاء تراكمت فوق الأخطاء حتى غدت ركاماً.

لذلك، فإن اندلاع شرارة الثورات أمر منطقي لتراكمات الفترات السابقة. تلك الشرارة التي انتقلت من تونس ـ وكان يمكن لها أن تندلع في موضع آخر ـ إلى البلدان الأخرى وصارت ناراً على أنظمة لم تضع قدراً لمواطنيها ولم تفكر لحظة بأن شرعيتها تنطلق منهم. فتحول الصمت إلى بركان هزّ كيانات رسّخت نفسها بولاءات الانتهازيين والمنتفعين. بركان أعلن أن حممه سلمية لا تحمل سوى سلاح التظاهر لإيصال صوت الحق. فجاء رد الأنظمة على الحركات السلمية بالقتل والسجن والتعذيب، ليرى العالم كله الأشياء على حقيقتها غير مزيفة بمساحيق طالما جمّلت بها السلطات وجهها. وحين سقطت الأقنعة بدأت الأنظمة تعزف على وتر "المؤامرة" الخارجية" والأيادي المغرضة التي تريد النيل من صمود الدولة الواقفة في وجه الاستعمار والامبريالية وما إلى ذلك من مفردات مستهلكة.

ممارسات الأنظمة العربية القمعية وهي تدافع عن كراسي السلطة في المشهد الراهن تجعل المرء يعتقد أنها رَكّبت هيكلية دولها لتكون منتمية لقادتها وأسرهم ولمن يواليهم بصورة مطلقة، بمعنى أنها حولت الدول إلى دكاكين ترتزق منها ـ أي تتناهبها ـ الأنظمة وأزلامها، وحين شعروا أن هناك من يريد إيقاف النهب، أخذوا بالدفاع عن مصدر ثرواتهم بكل ما يمتلكون من أسلحة، حتى وإن اضطروا لاستخدام الطائرات المقاتلة والدبابات لمواجهة وقتل المواطنين العزل إلا من أصواتهم التي نادت في البداية بالحرية والديمقراطية، ومع تزايد القتل شرعت الأصوات تنادي بسقوط الأنظمة التي ستسقط حتماً مهما طال الزمن لأن إرادات الشعوب أقوى، وما عليها إلا أن تدرك أنها أمام شعوب ودول وليس زبائن ودكاكين، وتبدأ بكتابة سيناريو النهاية لتختم أزمتها وتكتفي بما حدث من كوارث.