رجلٌ واحد كأي رجلٍ واحد، لكنّه متعدّد في انتماءاتِه الشاسعة كهذا الوطن؛ ففيه يلتقي بدويُّ آسرٌ، بفلاحٍ جبليٍّ عسيريٍّ لا يعرفُ غير القمح، بآخر من أواسط نجد لا يرى في الأرض نباتاً غير النخل..

عبدالله الصيخان، ابن القصيم، المولود في حائل، المترعرع في تبوك، المرتبط خؤولةً بعسير، يعيشُ في الرياض، ويعشقها.. أليس الصيخان ـ بكلّ هذا ـ نقطة التقاء الوطن كلّه؟ ثم ألا يمثل الصيخان ـ ببعض هذا ـ تنوّعاً في ذاتٍ واحدة، لها ما كسَبتْ؟

الصيخان يفرّ من الصحافة إليها، فلا هي قيدته، ولا هي أطلقته، ولذا كان معها مثلَه بين القصيدتين: الشفاهيّة والكتابيّة.. وكان معها مثله مع النساء، فلم تقيده امرأة، ولم يأنس بأيّ امرأة، وكأنّ "الوظائف" والنساء، عند الصيخان قيدان لا يستطيعهما شاعر حرّر قصيدتَه حتّى من الخط الفكريّ الواحد..

كان من مقترفي القصيدة في الثمانينات، ونال نصيبه مما نال جيلَه حين كان لا صوت يعلو على صوتٍ ما، لكنّه لم يدخل في دهاليز الأشياء، ولم يجعل من ردة الفعل دليل إثباتٍ ضده، لأنه ـ ببساطة ـ ليس كذلك، وإنما هو شاعرٌ بما يحيط به، وحسبه..

له قصيدةٌ كالماء في بساطتِها، وبساطتُها تلك هي السرُّ في كونها آسرةً، لا يمكن إلا أن تكونَ شعراً برغم التأويلات، وانخفاض منسوب المعجم اللفظي، وانحناءات اللغة، وغضبات صانعي النحو..

عبدالله.. يلقي القصيدة بإهمالٍ لذيذ، ولذا يتلقاه البسطاء كما يتلقون مغنياً في "سمرة" شعبيّة، فيقبلون عليه منصتين مستمتعين، لأنه صوتهم، ولأنه ـ فوق هذا ـ حزنهم وفرحهم، ولكم أن تتخيلوا كيف يكون إقبال الناس على الاستماع والاستمتاع بقصائد كتبَها حداثيٌّ ذو رؤى معقّدة ومتداخلة ومتشابكة ومركبة.. وما ذاك إلا لأنه ببساطة شاعرٌ يحب الناس والوطن، دون تمييزٍ أو تحيّز..

الصيخان شاعرٌ شاسعٌ كالوطن، فهو يأخذ من كلّ جهةٍ منه بطرف.. شاسعٌ كقلبِ شاعرٍ يتذبذبُ بين الشعبيّ والفصيح، أو يتنوّع بينهما كوطنٍ كبير.. ويحبّ في كلّ اتجاه، فيتوهم المزايدون أنه دون موقف، بينما موقفه الحب لا غيره..

لا يمكن للأيديولوجيا أن تمسك بدليلٍ واحدٍ يدينه بالولاء لها، ولا يمكن لإقصائيٍّ من أقصى الأرض، أو أدناها، أن يقول: إن الصيخان تنكّر لهويتِه أو ذاته، ذات شطرٍ أو سطر، لأنّ قلبَه وطن شاسع..

يمدح فلا يستطيع أحد أن يقول: أين استقلالية الشاعر المبدع؟ ويرثي المفتي الراحل، فنبكي كلّنا بكاءً واحداً، ثم يرثي طلال مدّاح، فنشترك كلّنا في حرقةٍ موحّدة..

علم "فضة" الرسم، فدخلت "فضة" التاريخ، وجعل "فاطمة" من برد، فتمنّت نساءُ الضّاد كلهنّ أنّهن من برد..

طقسُه الوطن، منذ "هواجس في طقس الوطن"، ولذا فإن الوطن قضيّته الأولى، والإنسان باعثه الأول، وليس له عندما تطغى على أحدهما، أو كليهما المزايدات، أو الأيديولوجيا، إلا أن يصمت.. ويصمت، لأنّ القصيدة فوقَ المزايدات والأيديولوجيّات..