عاشت مصر أول من أمس حدثاً اعتبره البعض تاريخياً، إذ شهد هذا اليوم بدء المحاكمة العلنية للرئيس المصري السابق حسني مبارك، ونجليه علاء وجمال، ووزير الداخلية السابق حبيب العادلي وكبار مساعديه.
الحدث مهم وتاريخي بالتأكيد، وبكل المقاييس، لكنه برأيي ليس الأهم في هذه المرحلة من عمر الدولة المصرية؛ فالحراك الذي تشهده مصر فكرياً وسياسياً، والذي يحاول بلورة شكل الدولة في المستقبل القريب – على الأقل – يعد أهم بكثير من محاكمة أعتقد أنها ستأخذ الكثير من الوقت الذي ينبغي أن يكرَّس لبناء مصر الحديثة.
وهنا يأتي دور المثقفين، وهو دور ضروري للتنوير في مرحلة اختلطت فيها الشعارات، وتعددت الرؤى وتضاربت، حتى بات الشارع المصري منقسماً، ومشتتاً، وفي أفضل الأحوال تائها!.
صالون الروائي المصري علاء الأسواني أول من بادر بحمل المشعل وقرر عقد ندوة بعنوان "مناظرة حول ضرورات العمل الوطني بين الإسلاميين والليبراليين" في اليوم التالي للمحاكمة مباشرة، أي أمس (الخميس)، وهي ندوة كانت تستحق النقل المباشر عبر شاشات الفضائيات المصرية كما حدث مع محاكمة مبارك؛ فمستقبل مصر أهم من ماضيها!.
ولا أقول هنا إن صالون الأسواني هو الذي سيرسم مستقبل خمسة وثمانين مليوناً يعيشون في مصر، وإنما يستطيع هذا الصالون مع غيره من الندوات المتعددة الأخرى في ربوع مصر، أن يفض الغشاوة التي تحول بين الشارع المصري وبناء رأي عام يحقق المصالح العظمى لهذا البلد، في ظل حالة الانقسام بين العديد من فئات الشعب المصري، والانشغال التام بمحاكمة الماضي، وهنا أيضاً يبرز دور الإعلام الوطني الحقيقي الذي لا يعنيه إلاّ مستقبل مصر، فيفرد لهذه الندوات مساحات كفيلة بتنوير الشارع المصري بمختلف اتجاهاته وأيديولوجياته، وهو ما لم يحدث حتى الآن!.
وأعتقد أننا لو اعتبرنا المحاكمة حدثاً تاريخياً، والندوات التي تستشرف مستقبل مصر حدثاً هامشياً لكان الهامش أهم؛ إذ ما جدوى النبش في البناء المتهدم بينما الأرض الفضاء في حاجة إلى كل السواعد للبناء على أساس جديد يستطيع أن يحمل كل الرؤى والطموحات العصرية للأجيال القادمة؟!.
إن الأمانة الفكرية تستوجب علينا الحث نحو البناء لا الهدم...، نحو استشراف المستقبل لا البكاء على أطلال الماضي أو منها...، ومصر التي هي قلب العروبة النابض، لا يمكن أن تظل هكذا رهناً للتفرق والتشرذم والتمزق، أو أن تتحول إلى مجرد جمهور يتلهى بمبارزة ستطول معاركها في ساحات المحاكم، فتعود إلى الوراء، وتتخلف عن الركب في زمن قطاره لا ينتظر أحداً!.