لم يكن يتوقع أحد ما حصل في البلدان العربية من ثورات متتالية، مع أن عددا من الدول العربية معروفة بقوة أجهزتها الأمنية والاستخباراتية، وزاد الأمر غرابة أن أول دولة بدأت فيها الثورات هي تونس، البلد الذي كان معروفا بصرامة أجهزته الأمنية وتجذرها في المجتمع آنذاك! بل كانت تونس شبه معزولة عن السياسات العربية وأولوياتها ومتجهة نحو الغرب وثقافته (الثقافة الاجتماعية فقط) بقوة وإرادة النظام السابق. ومع ذلك؛ فإن الثورة نجحت في إسقاط ذلك النظام مع سطوته تلك!

هذه النتيجة أدت إلى تزعزع النظرية القائمة على قوة الأجهزة الأمنية والاعتماد عليها فحسب، في السيطرة على البلد والحكم فيه. ويجب أن تؤدي بالتأكيد إلى تغيير السياسات الأمنية في أغلب البلدان الشرق أوسطية ولو بشكل تدريجي، وإلا فإن النتيجة الحتمية هي انتقال الفوضى والاحتجاجات إلى كل مكان، مع ما قد يصاحبها من هرج ومرج وتدخلات وما إلى ذلك.

وبرأيي أن أهم أسباب هذا التغير؛ هو تغيّر الفكر والعقيدة السياسية التي تؤمن بها تلك الشعوب (والشباب خصوصا فيها)، وقد سارع وساهم في هذا التغير الانفتاح الإعلامي الجديد بكل صوره الفضائية والعنكبوتية. ولم يعد في مقدرة نظام ما أن يحجب المعلومات ولا الأفكار، حيث ستصل بسهولة من خلال تلك الوسائل!

من القواعد الأساسية في نجاح أي ثورة؛ أن يكون لديها عقيدة سياسية تدور عليها، وكلما كانت تلك العقيدة قوية ومتينة زاد عمق إيمان أولئك الثوار بها واستمراريتهم وثباتهم عليها، ومن الواضح مما حصل في تلك البلدان؛ أن نموذج الفكر السياسي الغربي فيما يتعلق بالتعددية والحرية والمحاسبة وما إلى ذلك، قد أخذ تدريجيا في الانتشار والتجذّر في أوساط تلك المجتمعات، مما ساعد على إيجاد أرضية مشتركة لجميع التيارات والأطياف لأجل الاجتماع حول إسقاط النظام.

هذه العقيدة القادرة على تجميع الثائرين بثبات وتماسك؛ لم تكن موجودة بعمق لدى أغلب التيارات السياسية في الشرق الأوسط (سوى بعض التيارات الشيوعية والقومية قديما)، إلا بعض التيارات الإسلامية، حيث توجد لديهم عقيدة تمكنهم من حشد الأتباع واستبسالهم بقوة وثبات، ولم تكن تخشى تلك الأنظمة سواهم لهذا السبب! إلا أن الوضع الحالي اختلف، حيث انتشرت فكرة جديدة بين العديد من طبقات المجتمع خاصة الشباب هناك، وهي أيضا آخذة في الاتساع والانتشار اللامحدود، تمكنهم من تحقيق ثورة ناجحة -وبلا شك أن نجاح الثورة ليس نجاحا لأهداف الثورة بالضرورة-.

ومن اللافت للانتباه؛ أن العديد من الدول الغربية تخلت عن حلفائها، ومدّت يدها لتلك الثورات، مع التهديد المحتمل لمصالحها الذي قد ينتج من خلال تغيّر الأنظمة! وقد اختلفت تفسيرات المحللين لهذا الموقف؛ إلا أنني أعتقد أن ذلك لم يكن إلا محاولة للموازنة بين الخيارات والأخذ بالأقل تهديدا وخطورة، بعد أن توصلوا إلى نتيجة وهي أن الثائرين سيحققون نتائج في الأغلب، وأن الاستمرار في عناد أولئك ربما يكون له نتائج أسوأ بكثير مما لو وصلوا للحكم، إلى درجة تصريح الرئيس الأمريكي في كلمته الأخيرة الموجهة للمنطقة بأسرها بأنه سيكون في صف الشعوب في إشارة إلى الثائرين في المنطقة. حتى إسرائيل أصبحت شبه مستسلمة للأمر الواقع -سوى ما قامت به مؤخرا لأجل حفظ استقرار النظام في سورية-، مع أنها قد تتعرض لتهديد لمصالحها ووجودها أيضا، وذلك بناء على المبدأ نفسه، ونرى تهنئة رئيس وزراء إسرائيل الأخيرة بمناسبة رمضان تندرج في هذا السياق، مع أنه يحكم إسرائيل حاليا أسوأ تيارات اليمين المتطرف!

هذه التغيرات مجتمعة يجب أن يكون لها تأثير في رسم السياسات الأمنية والداخلية في بلدان الشرق الأوسط، وبالتأكيد إحداث تغييرات سياسية وأمنية ولو تدريجية. فعند مشاهدة الحالة الفوضوية الحاصلة في ليبيا واليمن وسورية وربما غيرها مستقبلا، نجد أنه كان من الأجدى لكل الأطراف المتنازعة أن لو استدركوا الأمور مبكرا، وقاموا بإجراء تغييرات قد لا تكون مرضية لكل الأطراف، ولكنها بالتأكيد أقل ضررا وأسلم لكلاهما.

إننا هنا عندما ننظر لمجريات الأحداث من حولنا؛ لنحمد الله تعالى أن ولاة الأمر عندنا لديهم الكثير من الرحمة والحكمة التي جعلتنا نعيش في أمن ورخاء، بعيدا عن كل البؤر الساخنة التي تدور حولنا، كما أن فتحهم للأبواب لسماع الشكاوى والطلبات من كبار وصغار الناس عامل استقرار وأمان للبلد، ونسأل الله أن يديم علينا الأمن والاستقرار.