لربما وضعت كتاب المغربية الأصل، الفرنسية الهوية، عائشة الوافي، على رأس أثرى الكتب وأمتعها بين كل قراءاتي في العام الأخير لأنه بكل الاختصار يأتي ضمن الكتب التي تتمنى أن تكمله في جلسة قراءة واحدة وفي ذات الوقت تتحسر على الفراغ الذي ستعيشه مع أي قراءة ستتلوه حين تفرغ منه.
وللتعريف: عائشة الوافي، هي أم المغربي (الفرنسي) زكريا الموسوي الذي اعترف في 22 أبريل 2005 بأنه الشريك رقم 20 في عقد المجموعة الإرهابية (تسعة عشر فرداً) التي قامت بهجوم الحادي عشر من سبتمبر الإرهابي في نيويورك ووثق اعترافه في رسالة إلى نائب رئيس الولايات المتحدة من قلب المحكمة في مانهاتن الأميركية. ماذا يشرح كتاب عائشة الوافي بالضبط؟ إنه يشرح بكل مباشرة وجلاء كل الملابسات والظروف الحياتية والاجتماعية التي قد تمهد كل السبل لصناعة شخصية تشذ عن السوية الفطرية. لا فرق أن تؤدي هذه الظروف الموغلة في الوحشية والحزن إلى صناعة متطرف ديني أو على النقيض، متطرف اجتماعي في أي شيء من أنماط التطرف، يميناً أو يساراً. إنه قصة الظروف التي تجبر المرء على الخروج من المسطرة. ولدت عائشة الوافي (أم زكريا الموسوي) في قرية أطلسية فقيرة ووجدت نفسها طفلة في حرب من التقاليد الاجتماعية والأساور التي يصنعها الجهل والانغلاق، طفولة المجتمع الابتدائي بعيد الحرب الكونية الثانية. وفي الرابعة عشرة من العمر زوجت بالإكراه من زوج يكبرها بضعف العمر لتجد نفسها في حملها السادس بالابن الأصغر نفسه (زكريا) ولم تبلغ بعد سن العشرين. تعرضت عائشة الوافي على يد زوجها لكل أصناف العبودية والاستغلال ووثقت في الكتاب كل تفاصيل قصة العنف المنهجي والحروق وكسور العظام وأكثر من هذا قصتها مع الزوج الوحشي وهو يهشم أصابع أطفاله حد إصابة بعضهم برهاب التبول اللا إرادي من الخوف لا فرق لديه في ذات السلوك على أرض الوطن الأم أو حتى في بلد القوانين بعيد هجرتهم الأبدية كعائلة إلى التراب الفرنسي مثلما لا يوجد فرق في طباعه بين فترة الزواج وحتى فترة الطلاق بعد أكثر من عقد من الزمن. عاش زكريا الموسوي جل طفولته بل كلها مع إخوته نزيلاً عند عشرات الملاجئ وجمعيات حماية الأطفال وفي كثير منها كانت ظروف هذه الملاجئ رغم بعدها الإنساني تضطر هؤلاء الصغار حتى لوداع الأم التي لا بد أن تدبر نفسها في مكان آمن وبعيد عن غارات الأب. كلما اكتشفهم في ملجأ هربوا إلى الذي يليه. هكذا كان زكريا الموسوي ضحية الأسرة مثلما هو بالضبط يرسخ لدي ذات المفاهيم أن المتطرف على الدوام صناعة اجتماعية خالصة وأن وراء كل متطرف ظروف أسرته التي تدفعه لهذا الخيال الموغل في العنف. فتش عن – المتطرف – في ظروف أبويه. ومثلما كان زكريا الموسوي عقدة أبيه وذنب أسرته، بمثل ما كان ضحية بعض المد العنصري الذي واجهه من المجتمع من حوله في فترة المراهقة. تثبت حالته ما تثبته ذات ظروفه. هو شيء من شخص أبيه لأن المتطرف لن ينبت إلا المتطرف. هو ذات أبيه – مراهقة – في الملذات وفي الجري وراء النساء والكحول وأفظع من هذا في ذات العذاب الذي لقيته أمه على يديه بالاعتداء والضرب والإهانة. هو مرة أخرى يبرهن ذات رواسخي أن في المتطرف الديني أشياء من محاولات التكفير عن ذنوب بمثل ما في المتطرف من رغبة جارفة في استبدال الماضي الأسود وفي الانقلاب على صفحات الإثم السابقة. ولا شيء أجمل في الكتاب من اختصار العنوان: ولدي الضائع. طفولة عذاب ومراهقة عربدة وانتقام ثم رحيل مفاجئ عن الأم ليعود – برهة قصيرة – بذات التحولات الهائلة فلم تكتشف فيه أكثر من شتمه لإمام المسجد لأنه كان يدعو إلى التسامح. هروب أبدي بعد ذلك، وبعد أربع سنين تصل أمه أول رسالة استعطاف من الابن الذي هاجر لأفغانستان وهي التي لا تعرف أين هي على الخريطة. وحين يسألها عنه المحققون فهي مثل كل آباء المتطرفين لا تعلم شيئا. لا تعلم أين هو لنصف عقد من الزمن. لا تأخذه هذه التحولات الطارئة في رسالته إلى شيء لأنها مثل كل آباء المتطرفين أول من يرفض أن يكون ابنها شريكاً في تنظيم إرهابي باسم هذا الدين للسبب البسيط: لأن ما تعرفه عنه هو ما يعرفه كل أب وأم عن ماضي الابن المجافي لتعاليم الدين وعن سيرته التي لا يمكن لها أن تتحول إلى النقيض بهذه الفجائية والسرعة. إنه الكتاب الذي يجب أن يقرأه أولاً: كل أب يشك في ميول ابنه المتطرفة كي يعرف الظروف والملابسات حين يتحدث بحرقة عن: ولدي الضائع.