نقطة نظام ومن أول السطر: مصر تكتفي بهذا القدر من الفراعين. لا مكان بعد اليوم لفرعون، وهامان، وحبيب العادلي، وصفوت الشريف، ولا حتى لنزق المدام والأولاد باسم الرئيس؛ تلك أمة قد خلت، وعلى القادمين الجدد مراعاة تحولات العصر، وضبط السياسة على نبض الشارع. جسد مبارك المنهك في قفص الاتهام يؤكد أن هبة النيل لم تعد حنونة كما كنا نظن، لا مع رموزها، ولا مع عسكرها، ولو حاربوا ونافحوا عنها ذات يوم، وأن عواطفها الشهيرة قد أسقطت عمداً مفردات الصفح، و(معليش)، وربنا يسامحك؛ مع كل من يخطئ في حقها، أو حتى من تشك في أنه أخطأ ولو لم يفعل. قدامى المصريين لا يستوعبون ما يحدث بسهولة، ومعهم أيضاً قدامى العرب.. إرث السيد عربي ضارب بأطنابه في الحمى، ومن الصعب تجاوزه، فما بالكم بالانقلاب على كل ما عودنا عليه؟! لقد كان صبوراً حد القرف، وسلبياً حد البلادة، وبهذين عاش معنا على الكفاف السياسي، وعلمنا رذيلة السكوت، والمحاباة، والخوف من المجهول، لكنه ينقلب اليوم على قفاه أمام قوة المشهد، وجلال الحدث، اللحظة الفارقة تلغي كل ما تعلمه في الكتاتيب، وكل ما رفعه من شعارات تمجيد لبشر يمشون في الأسواق مثله، ويبكون ويضحكون مثله.. الأيام تثبت أن إرث الفراعنة كاملاً لم يكن يناسب الأولاد، وإن صبروا عليه، وعاش معهم وآذاهم في غير مكان.. مصر الجديدة تُصفي حسابها القديم مع كل الفراعنة، وأيضاً مع سلبية السيد عربي، كي يعتبر الرئيس القادم، ويمشي بما يرضي الله، والشعب، وضرورات العصر! وذلك عين العقل، وحتى لو لم يستحق مبارك كل هذا القدر من الإساءة؛ فالمهم هو المبدأ، وكسر الحصانة، والنزول بفوقية الحاكم، والتأكيد على أن الطريق إلى المحكمة لم يعد صعباً على أي رئيس قادم يسير سيرة الأقدمين، وسيكون الدرس قاسياً على الذين لم يصدقوا بعد أن طوفان 2011م لا يزال في بدايته، والمسألة لا تحتاج إلى تنجيم، وضرب ودع!! في مصر انتهت حقبة ناصر، وعامر، وشمس بدران، وصلاح نصر، وحمزة البسيوني بكل أذيالها وخيباتها، وقدر مبارك السيئ؛ أن يكون قرباناً لتلك النار التي تأججت في صدور المصريين لخمسين سنة، والمؤلم أنه لا روح للقانون، ولا قلب له ولا مشاعر؛ طالما أن الذاكرة هي من يطالب بالقصاص، وطالما أن أصحاب مظالم الأمس هم قضاة اليوم! إنها عبرة عربية نادرة، ولكن ندرتها لن تدوم، فمصر دائماً هي القدوة، والمثال، والرقم واحد في التغيير، وما لم يكن مألوفاً للسيد عربي سيصبح من أبجديات وعاديات الأيام، وستتكاثر المحاكم في عالم عربي يحتاج منذ زمن لمحكمة واحدة يؤمن بوطنيتها الناس، ورئيس واحد يكون عبرة! أفلا تعقلون؟

لكن انسوا كل ما كتبت أعلاه، وفكروا معي في الألم القادم: مصر بدأت جهادها الأصغر، والخوف من الجهاد الأكبر الذي سيأتي لا محالة بعد محاكمة مبارك، وسيتضح أكثر بعد نهاية الجامع الكبير لكل الأطياف وهو محاكمة قتلة الثوار، والذين أفسدوا الحياة السياسية بزعمهم! إذ ها هي أمعاء الفسيفساء تندلق شيئاً فشيئاً في ميدان التحرير، إخوان، وأقباط، وسلفيون، وليبراليون، وإن شئتم فهم فراعنة من نوع آخر، ينبهوننا أن آل فرعون قد يعودون، وأنهم قريبون جداً وفوق أحلامنا الطيبة لبلاد النيل، وكل هؤلاء يتحدثون في وقت واحد، ويريدون مصراً على هواهم، وكم هو ثقيل حمل مصر؛ حينما يخرج كل فراعينها فجأة على الملأ، ليطالبوا بما يرونه متوافقاً مع إرادة الشعب وأمانيه الجماعية! فرعون الحاكم بأمره لن يعود في مصر، أما الفراعين المتحكمون والمتدخلون في كل شيء فذلك في علم الغيب، وإن كانت الإرهاصات لا تخفى على ذي لب، وعمار يا مصر عمار.