تقف منعطفات النفوس على محك الاختبار الحقيقي في مواقف اتخاذ القرار، أخص بها القرارات المصيرية.. وفي تلك اللحظات التاريخية من عمر الزمن تكشف الأهداف حقيقها من مغشوشها، وترسم اتجاه الطريق؛ فإما للخسارة أو للنصر، للبناء أو الهدم، للخير أو الشر، وها هي ثورة مصر في لحظة انتصارها تكشف أوراقاً جهلناها ونحن ننتظر فرحة انتصار الشرف.. شرف شعب ينتفض لأجل حقوقه الإنسانية بسلمية، ويقود ثورته برغبة الحق المتسامية عن العنف.

كانت لغة السلم المؤكدة مرارا وتكرارا لثورة مصر مصدر نجاحها وسر الإعجاب بها، وبلغتها العظيمة تلك ضمت الجميع تحت لواء الديموقراطية والحرية والكرامة، ولكن ما إن انتصرت الثورة حتى تغيرت وجهة الأهداف وقبلة المطالب إلى التشفي والشماتة، فالجموع التي والت رفع سقف المطالب تواليها ولا تكتفي، فالمطالبة بالإصلاح تحولت بعد الموافقة العاجلة عليها إلى المطالبة بالتنحي، وعندما تم التنحي، تحول الإصرار إلى رؤية الرئيس المنحى يحاكم في قفص الاتهام علناً، ولم يردع أخلاق المطالبين ضعف المتهم عن المثول واقفاً، ليطالبوا به وهو مسجىً على سرير المرض.. إنه نتاج الضغائن، فعندما تتحول المشاعر إلى الحقد فلا حد يوقف وتيرة التشفي.

ولعل مفارقة قريبة تحكم على مشاعرنا وتنير بصائر مقاصدنا، فمنذ قريب عهدٍ أعدمت أميركا الرئيس صدام حسين، فهب المسلمون؛ العرب منهم خاصة يعلنون احتجاجهم على مقتله في يوم عيد، رغم أنه كان طاغية دموياً، ومع ذلك كان التوجه الإنساني العام كارهاً لتوقيت مقتله؛ لما يمثله من تحدٍ للمشاعر الإنسانية، تحدٍّ يمثل نكوصاً أخلاقياً وهمجية تعادي الخيرية، وإن كان العتب على غير المسلمين في احترام كرامة الزمان المقدس، فإنه على المسلمين أولى وآكد، إذ ها هم المسلمون وأبناء وطن واحد يحاكمون رئيسهم المخلوع في شهر رمضان الكريم، وبقسوة حملته على فراش المرض!!

وإن قصرت المفارقة عن استجلاء عتمة الأحقاد ونتائجها، فالقياس ببداية الثورة ومآلاتها يجلي النتيجة بشكل يميز الحق من الباطل، فتحول الأهداف إلى العنف والانتصار للأحقاد ولى بمطالب الثورة الحقوقية وبعثر سلميتها، فأخذت الانشقاقات الدينية والسياسية تتوالى على المشهد وتتفاقم، وها هو الأمر يصل بالثوار أنفسهم للتراشق بالحجارة خارج المحكمة بين مؤيدٍ للمحاكمة ومعارضٍ لها، وهكذا هو العنف لا يمكن إلا أن يولد الانشقاقات والفرقة في الصفوف والأهداف، فشرط الثورة الحقيقي ألا تنتكس لمبدئها السلمي، مبدئها الحقوقي، وما إن انتكست حتى تفتت وتفرقت واستوحشت.

بلوغ الأهداف النبيلة هدف كل المنتصرين لإنسانيتهم، فهل محاكمة الرئيس بذلك الشكل هدف نبيل؟! ولمن يدّعي أن النبل لما تحققه من عبرة وعظة لسواه، فالعنف لا يبرر بتصرفات في ظهر الغيب، بل إن العبرة قد تنتكس فتنتج مزيد احتياط ومكر، فافتراض نوايا الشر المستقبلية لا يمكن إلباسه نبلاً أو فضيلة، لأن العبرة لا تعطي درسها إلا وهي تحمله على أكف التفاؤل والخيرية والسلم.

نظام تصفية الحسابات الذي طغى على الساحة المصرية اليوم أبعد ما يكون عن المصلحة الوطنية، لأنه يقود إلى التشرذم والانقسام وتبادل التهم والشد والجذب فيما لا طائل منه ولا نهاية له، وحال مصر اليوم شاهدٌ، فالفوضى العارمة، والاعتصامات والتظاهرات اليومية، وما تسببه من خسائر اقتصادية وانفلات أمني هو ما آل له الحال، ومحاكمة الرئيس السابق بداية لمسلسل محاكمات لن تنتهي، فهيئة الدفاع تطلب استجواب 1,761 شاهداً، مما يعني أن مصر ستتحول إلى محكمة كبرى، نتاجها الأبرز ارتفاع حدة الانشقاقات السياسية والشعبية، فهل هذا طموح الثوار؟!، أن يسجنوا ثورتهم لخاطر الأحقاد؟!، ثم السؤال الأحق: هل ضمائر المصريين مرتاحة وهي تقدم رمزاً وطنياً حكم ثلاثة عقود للمحاكمة، وهو يرقد على فراش المرض؟، إن أكبر جبابرة العالم حوكموا وهم في كامل احترام مكانتهم وإنسانيتهم، أم إن الكفر بالرموز ميزة عربية، حتى إذا ثار رعاعهم لم يراعوا وضعاً ولا فضلاً ولا رمزاً؟!!

الفتك عند المقدرة عنوان ضعف ودليل انهزام وخذلان، بينما العفو عند المقدرة، تربية وجدانية تحمي نفوسنا من سقوطها في دهاليز ظلمة التشفي والأحقاد، وتهدي القادر المنتصر إلى احترام كرامة الإنسان الخصم، فينصرف عما يشفي غليله وحقده إلى ما يكظم غيظه ويدحر قوى الشر بداخله، وما أحوجنا لإنقاذ فضيلة التسامح التي غدت في حقل ألغام الأحقاد نسيا منسيا.

كل الثورات في العالم لها ثمن يدفع من أرواح البشر، وأنا هنا لا أقلل قيمة إزهاق الأرواح، لكن لن يرد الأرواح مزيد إزهاق أو ضغينة أحقاد، وثورة مصر سجلت 850 ضحية؛ عدد أقل من ضحايا العبارة التي راح ضحيتها 1033شخصا!! والمحاكمة اليوم عليها أن تحاسب النظام الفاسد، وتقاضي السياسيين التجار الذين نهبوا أموال مصر وتعيدها، فالبيت المصري ينتظر تصحيح الأوضاع، ورسم الخطط العاجلة لتحقيق السيطرة الأمنية والمستقبلية.

يرى غاندي أن"النصر الناتج عن العنف مساوٍ للهزيمة، إذ إنه سريع الانقضاء" وبالسلمية التي قادها ودعا لها لمواجهة الجيش البريطاني وقوى الاحتلال رفع راية استقلال الهند خفاقة، ونيلسون مانديلا الذي أذهل العالم بصلابته رغم كل ما مورس عليه من تنكيل وقهر، قضى في السجن 27 عاما، وبعد خروجه وتسلمه الرئاسة لجأ إلى نبذ الكراهية والانتقام، فقاد بالسلم والتسامح بلاده إلى الديموقراطية في ظروف أصعب كثيراً من ظروف مصر اليوم.

والسياسة الذكية تقدمها البلدان الواثقة في قدراتها على الأخذ بالثأر، فاليابان بعد القنبلة النووية لهيروشيما وناجازاكي لجأت إلى عقد صداقة مع أميركا، وبدأت تقلد الصناعات الأميركية حتى وصلت لمستوى جودة جعلها ثاني أقوى اقتصاد في العالم، ثم وسعت مشاركاتها بالتعاون الدولي من أجل مساعدة البلدان الأخرى على تحقيق التنمية العالمية، عن طريق المنح والقروض والمشورة الفنية والتدريب، وعقود نقل التقنية. لقد تجاوزت اليابان التسامح إلى الإحسان الذي نالت به المراكز العليا في تنمية الصناعة السلمية، لقد طبقوا ببساطة حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فانطلقت صناعاتهم تجوب أقطار الدنيا معانقة فضل الإحسان.