هذه النصيحة تعلمتها من جودت سعيد حين حملت حقيبتي للتوجه إلى ألمانيا للتخصص الطبي، فقد قال لي في نصيحة لا أنساها: اكتب في الأشهر الأولى ما يمر معك فلسوف تتحول إلى الروتين والاعتياد مع الوقت، وليس مثل الاعتياد قتلا لروح الدهشة والفضول عند الإنسان.

وفعلا فقد كتبت دفترا كاملا في السنة الأولى محفوظا للنشر، وهو وصيتي للنشر بعد وفاتي إن لم أنشره في حياتي، فقد حدثني مالك بن نبي أنه كتب في المسيحية كتابا خطيرا ولكنه لم ينشر حتى اليوم وربما مازال وديعة زوجته لا نعلم؟

وروح الدهشة والفضول هي روح الفلسفة، وهي روح الطفولة تموت مع الوقت بفعل الاعتياد والغفلة والبلادة والنوم والرذائل؛ فينطفئ النور الفطري داخل كل واحد منا، وهو مصباح يدمر الشياطين كما وصف الرب نجوم السماء أنها مصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين.

ويظن البعض أن الرذائل هي فقط الانحرافات الجنسية والسرقات، وينسون أن الكسل هو أعظم الذنوب، فعلى الروح أن تستيقظ مع طلوع الشمس ومغربها وأدبار السجود.

ولقد كتبت فعلا كتابا كاملا عن ذكرياتي من ألمانيا في السنة الأولى وما مر معي من الجديد في الحياة الألمانية، ثم انتقلت في تفكيري إلى البعد خارج المكان والزمان، كما كتب إدوارد سعيد مذكراته بهذا العنوان (خارج المكان) وكان محقا في ذلك، فقررت أن أكتب سيرتي الذاتية في ثلاثة أجزاء، حياتي في سوريا حتى سن 28 سنة عندما غادرتها، ثم السنوات التسع في ألمانيا، ثم ربع قرن في السعودية قبل التوجه النهائي إلى المغرب وكندا.

ومما لفت نظري عن الجنرالات الألمان أن معظمهم كان يكتب يومياته حتى وهو في الجبهة تحت ضرب النار، ولعل أجمل مدخل يمكن أن يفهم الإنسان الآخرين هو من خلال قراءة ما كتبوه من مشاعر شخصية ومذكرات يومية.

هكذا قرأت لمالك بن نبي عن مذكرات شاهد القرن، وحفريات في الذاكرة لعابد الجابري المغربي، والأيام المرة لمنيف الرزاز البعثي، ومذكرات أكرم الحوراني ثعلب سوريا الذي كان سبب من أتى بالبعثيين الطائفيين إلى سدة الحكم في سوريا، ومذكرات الفيلسوف المصري عبدالرحمن بدوي الذي فهمناه على نحو أفضل من خلال مذكراته الشخصية، ثم خارج المكان لإدوارد سعيد قبل أن يودع الحياة بمرض السرطان الذي قاومه حتى اللحظات الأخيرة، وكذلك مذكرات عبدالوهاب المسيري، وفي مكتبتي أنا الكثير من المذكرات واليوميات لشخصيات كثيرة مثل تشرشل وإيزنهاور وديجول وجواهر لال نهرو الهندي في كتابيه الشهيرين (من السجن إلى الرئاسة) و(معالم تاريخ الإنسانية) والأخير كتبه في رسائل لابنته أنديرا غاندي وهو في السجن، قرأته أنا وكنت شابا مراهقا ومازال محفورا في ذاكرتي حتى اليوم، وكان رجلا عالميا سلاميا فهيما وكذلك (مذكرات الدعوة والداعية) وهي لحسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين، وكتاب كفاحي لهتلر، ويمكن أن تعرف من خلال هذه المذكرات تلافيف دماغ كل مفكر..

والله يعلم وأنتم لا تعلمون..