(ملحان) مؤذن القرية يرفع أذان المغرب؛ في أولى ليالي رمضان قبل عشرين عاماً. فتترنم معه الجبال والوديان، والطرقات الخالية إلا من العشب، وترفع الأشجار عقيرتها بالشجن، وحلاوة الناس والوقت، العيون والأذان مضبوطة تماماً على غياب الشمس وأصوات المؤذنين، ولذلك لا حاجة لمكبرات صوت، هدوء الزمن الطيب بأيامه ولياليه يتكفل بجلاء السمع والبصر، وكذلك القلوب، والعواطف، والأخلاق العامة.. الجدة صالحة بنت عامر تُبسمل وتدعو ربها راضية مرضية: اللهم لك صُمنا وعلى رزقك أفطرنا، تتناول تمرة وحيدة مع رشفة ماء بردته الطبيعة لا الثلاجة. ثم فنجان قهوة على ما تيسر، وتذهب لأداء الصلاة، وفي ذهابها ومجيئها لا ينقطع صوتها بالتهليل والتكبير، وطلب الصفح، والغفران، والتجاوز.. بعد الصلاة يتحلق الطيبون حول بعضهم بانتظار أحلى وجوه رمضان، يُطل علي الطنطاوي عبر تلفزيون الأبيض والأسود، يلج الشيخ المدى، والعقل، ويزرع فاكهة الظرف في عشر دقائق، ثم يفتح قوساً لجملة اعتراضية على هامش الحديث، ويعد بالعودة، لكن الشيخ لا يعود إلا في الحلقة التالية، ونحن راضون وسعداء، لدرجة أننا لا ندري من منا على مائدة الآخر لروعة وسهولة ما نسمع، ولروقان النفوس و صفاء الأذهان، وبعده يأتي برنامج الكاميرا الخفية مع فؤاد المهندس، وأبطاله العاديين من أرض الكنانة، يحلو الكلام مع الشاي بالنعناع، والضحكات، وسنبوسة الأمهات المثلثة والمستديرة، التي لا تنتمي لبساطتها إلى أي شكل قد يجلب الشبهة! في ذلك الزمن البريء لا سماجات فن هابط، ولا محاولات جافة (لإطاشة) عقول البسطاء بصراع ليبرالي وإسلامي على الشاشة يتكرر في كل عام، وربما لن ينتهي إلا بنهايتنا.. يمر الوقت سريعاً وبكامل أناقته وذوقه العالي. (حمدان وعلي بن عبده) في القريتين المجاورتين يسبقان (ملحان) بأذان العشاء، التراويح تؤدى كاملة في مساجد القرى، ولكل قرية إمام من أهلها يحبهم ويحبونه، ويستشيرونه في أمور دينهم ودنياهم دون جفوة، أو إحساس بالفوقية، وقتئذ لا يوجد إمام جاء بفيزة سائق، أوعامل نظافة ضل طريقه إلى المحراب، بل أئمة بالفطرة يتلون القرآن بأجمل لحون العرب، ولا يجعلون جله غنة عجمية متكلفة كبعض المعاصرين، أو وعظاً مستديماً ينفر ولا يقرب بعد كل صلاة! بعد التراويح تضاء الأنوار في الملاعب الترابية، فينساب إليها شباب القرى كي يروحوا عن أنفسهم ويلتقوا بأحبابهم. لا كبتاجون، ولا حشيش، ولا مقاهي كافيه تسوق الناس إلى حتفهم، ولا حتى تفحيط بائس لنحر الوقت، الرياضة وحدها كانت تجمع الشباب وتشغل وقتهم عن موبقات عصر قادم! بعد منتصف الليل يكمل الأصدقاء ما بقي من الوقت على براد شاي و (باغة فصفص)، وفي أحسن الحالات علبة بيبسي لا للتشفيط والوسوسة، بل لهضم وجبة عابرة قد يأتي بها أحد الأصدقاء، و يمضي الليل بحكاية إثر أخرى حتى الثالثة صباحاً، في المنازل وفي الطرقات.. إنها ليالي رمضان الأحلى في منتصف الثمانينات الميلادية، التي كانت أشبه بالمنتديات والديوانيات الحية لا المتكلفة، والموجهة، والموصى عليها من فلان المثقف أوعلان الشيخ، ولم يكن يعكر صفو تلك الليالي إلا انصراف الوقت والمساحة قبل أن تكتمل الحكاية، وقبل أن يشبع المغرمون بالسمر.. اليوم أكتب لكم من غرفة باردة المشاعر، والأحاسيس، والذكريات. لا يوجد فيها أي شيء يذكرني بالقرية القديمة سوى وجه أمي وحكاياتها، ومنديل جدتي التهامي الأصفر، وأعيش مثلكم تماماً في زمن منهك بأوجاع الحضارة، يقتات على الكتشب والأندومي، وأخبار الشبيحة، و كل ما تجلبه المطاعم والمولات من خيرات لا نصنعها، ولا نزرعها، لكننا نستهلكها بوحشية وقلة وعي، وننسى كيف كنا؟! وكل عام وأنتم طيبون، ووقاكم الله من التخمة والنسيان، وأعراض الفن الهابط!