بينه وبين الجيل الحالي من الصحفيين ساتر عريض من رؤساء التحرير، ودهاقنة الفكر والثقافة وكبار الصحفيين.
لا يكاد يشاهد "محمد صلاح الدين الدندراوي" في أي محفل إلا وتحفه كوكبة من رؤساء التحرير، وكبار الصحفيين وهم مطأطئو الرؤوس، يتسابقون بنشر أذرعهم بين يديه لفتح الطريق لـ(أبي عمرو) اعترافا بأستاذيته، وتأدبا مع من علمهم الحرف والحبر والحب الغامر.
يصفه رئيس تحرير مجلة الحج الأسبق الدكتور عاصم حمدان بأنه "قامة كبيرة، تتميز بنكران الذات. وأنه محط ثقة الجميع، وحريف صحافة، وليس هناك مدرسة صحفية خرجت أجيالا، وأعطت ثمارا بمثل ما فعلت مدرسة صلاح الدين".
فيما يلخص رئيس تحرير الوطن السابق جمال أحمد خاشقجي سيرة أبي عمرو الذي يتلقى العلاج حاليا في قسم العناية الفائقة بمستشفى الملك فيصل التخصصي في جدة إثر نزيف حاد في المخ بأنه "محمد عبده يماني آخر. في تواصله مع الناس، وفي فزعته ومد يد المساعدة للآخرين". خالصا إلى القول إنه "رجل يُحب، بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى".
أبجدية الصحافة
أحمد محمود، وهو رئيس تحرير ومدير عام لأكثر من صحيفة ومؤسسة صحفية في السعودية، أحد أبرز تلامذة صلاح الدين وأكثرهم قربا منه قال عن أستاذه ليلة تكريمه بتعيينه رئيسا لتحرير صحيفة (المسلمون) في إثنينية عبدالمقصود خوجة في مارس 1989 "تعلمت الصحافة على يد أستاذنا الكبير محمد صلاح الدين، وعلى يديه درست حروف (أبجدية) الصحافة. عملنا في صحيفة المدينة كأسرة عز نظيرها في (مؤسسات) الصحافة في ذلك الوقت، والفضل يعود إلى القيادة الإدارية المتفهمة، لأحمد جمجوم (رحمه الله)، وإلى روح العمل الجماعي التي استطاع أستاذنا محمد صلاح الدين أن يضفيها باعتباره مديرا للتحرير للعاملين معه".
ويتذكر محمود كيف أن معلمه صلاح الدين كان "ينمي في تعامله مع الشباب الثقة بالنفس. ويشجعنا على شق طريقنا الصحفي، يعين من يحتاج إلى العون، يقوم ما اعوج من أسلوب، ويرمم ما تهتك من عبارة، ويصلح ما غمض من فكرة، بأسلوب أبوي لا جرح فيه ولا تعالي، فيقرأ القارئ صفحات الصحيفة وهي متجانسة لا نشاز في مستواها، رغم تعدد محرريها، وتفاوتهم ".
وسرد محمود قائمة مختصرة لأبرز زملائه الذين تتلمذوا على يد معلمه من أمثال "الدكتور هاشم عبده هاشم وعلي عبد الله القرعاوي وعلي حسون، ومع غيرنا من أجيال تتابعت بعد بداياتنا الصحفية الأولى". وساق مثالا في تبني صلاح الدين للمواهب الواعدة بقوله "زميلنا سباعي عثمان رحمه الله، جاء إلى صحيفة المدينة قادما من – الجامعة الإسلامية – في المدينة المنورة، فلما رأى ميوله الأدبية شجعه وتنازل له عن تحرير الصفحة الأدبية، التي اشتهر بها سباعي، وشهرته بين شداة الأدب في المملكة".
الندوة والمدينة
بدأت رحلة محمد صلاح الدين الدندراوي مع الصحافة في صحيفة الندوة في العاصمة المقدسة حيث كانت أسرته (آل الدندراوي) مجاورة للحرم المكي الشريف على مدى أجيال. يقول عاصم حمدان وهو أستاذ اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة الملك عبدالعزيز "أنشأ جده لأمه السيد محمد الدندراوي مسجدا مشهورا في حي الحجون المطل على مقابر المعلاة في مكة المكرمة". أضاف "صقل أبوعمرو تجربته الصحافية في مدرستين صحافيتين كبيرتين في مكة المكرمة. فقد شارك كسكرتير تحرير في صحيفة الندوة في العام 1379 إبان رئاسة صالح محمد جمال وشقيقه أحمد (رحمهما الله)، وكذلك في مدرسة محمد سعيد العامودي الذي كان يرأس تحرير مجلة الحج آنذاك".
في مطلع الثمانينات، عصفت ظروف قاهرة بأحوال صحيفة المدينة بعد انتقال ملكيتها إلى مؤسسة المدينة للصحافة والنشر 1383هـ/ 1963م (أصدرها السيدان علي وعثمان حافظ في العام 1356هـ/ 1937م)، إثر أزمة ورق طاحنة، ومحدودية الإمكانات في المدينة النبوية، إلى جانب ضعف السياق الحضاري والفكري فيها بعد أن غادرها الأدباء والمفكرون من أبنائها إلى جدة ومكة والرياض بحثا عن لقمة العيش. ونجح هشام ومحمد علي حافظ (عرابو الصحافة السعودية الحديثة) في إقناع والدهما وعمهما بضرورة إعادة إصدار الصحيفة من جدة في العام 1382.
بعد مرحلة مخاض صعبة، شهدت فيها الصحيفة العام 1384هـ تغيير ثلاثة رؤساء تحرير دفعة واحدة (محمد علي حافظ وعبدالحميد عنبر، وعزيز ضياء) استقر وضع الصحيفة المهاجرة من جوار القبة الخضراء في المدينة المنورة إلى ساحل جدة عروس البحر الأحمر بتسليم السيد عثمان حافظ مقاليد رئاسة التحرير، في جمادى الآخرة العام 1386هـ. وكان محمد صلاح الدين هو العضد المتين الذي استند عليه السيد عثمان حافظ، ووضع فيه كل ثقته، وعينه مديرا للتحرير، واستمر في منصبه نحو تسع سنوات حتى العام 1395.
يتابع خاشقجي الذي يشغل الآن مدير القناة الإخبارية التابعة لمجموعة المملكة القابضة (تحت التأسيس) "كان الآمر الناهي في صحيفة المدينة آنذاك. وعندما يكتب تاريخ الصحافة السعودية الحديث يبرز اسمه كرائد وأستاذ جيل. فهو من نقل الصحافة من بساطتها التي كانت سائدة في مرحلة التأسيس، إلى صناعة الصحافة الحديثة، من مانشيتات خبرية، وتحقيقات صحافية، وحوارات، ودرب على يديه جيلا كاملا تشاهدهم الآن نجوما في مسرح الصحافة المعاصرة".
أحمد محمود يضيف "مما أعرفه من علاقتي اللصيقة به منذ 50 عاما، عندما جمعتنا صحيفة المدينة المنورة بعد انتقالها إلى جدة، أنه كان يسكن في مكة المكرمة، فينزل بسيارته منها يوميا للعمل في إدارة تحرير الصحيفة بجدة ثم يعود في الهزيع الأخير من الليل إلى مكة، ما تخلف عن عمله يوما واحدا، ولم يكن يغادر عمله في تحريرها حتى تأوي صفحات الجريدة إلى المطبعة".
ويصف طريقة عمل أستاذه الدندراوي في صحيفة المدينة بأنه "كان يكتب بأيادٍ متعددة. وساهمت رشاقة حروفه وهو يكتب، مع رشاقة تعبيره. كما ساهم وضوح خطه في إنارة أفكاره، فكل يقرؤه بسهولة، ولا يحتاج لمن يراجع حروفه أو كلماته". ويكمل: "من أياديه المتعددة عنايته بالأدب والنقد، فكان يحرر صفحة في الأدب والنقد، وترجمته للتقارير الصحفية باللغة الإنجليزية وهو خريج مدارس الأزهر، التي لم تكن تعلم هذه اللغة، لكن طموحه دفعه لأن يتعلمها، بل ويترجم منها، بنفس المستوى من الوضوح".
رائد النشر
إلى كل ذلك يعد محمد صلاح الدندراوي من طبقة الرواد على أكثر من مستوى ومقام. فهو رائد في صناعة النشر المتخصص حيث أسس دار السعودية للنشر في العام 1380هـ، وبعدها أسس وكالة مكة للإعلام، التي تحمل التصريح رقم واحد. كانت الدار تهتم بالإنتاج الفكري والأدبي والحركة الثقافية ليس في السعودية وحسب، بل تجاوزها إلى فضاء العالمين العربي والإسلامي، فيما كانت (الوكالة) مهتمة بإصدار المجلات والدوريات المتخصصة للمؤسسات الخاصة والأجهزة الحكومية.
يتذكر حمدان دوره في قطاع النشر والتوزيع بقوله "كان أبرز الناشرين السعوديين وأكثرهم حضورا في الساحة، حيث كان يجمع بين الصحافة والفكر والأدب، وكل هذه الفنون تنطوي تحت شخصيته الجامعة". مضيفا أن صديقه صلاح الدين كان "رائدا في هذا المجال، ومتميزا عن غيره بحرصه الشديد على أن يخرج العمل من تحت يديه في أبهى صورة ممكنة. كما كان حريصا على بذل كل جهد واهتمام بأعمال الرواد رجالا ونساء وجمعها وتنضيبها وإخراجها في كتب مفيدة للمكتبة السعودية والعربية. كما أولى اهتماما خاصا بإنتاج الجيل الجديد من المثقفات السعوديات مثل الدكتورة عزيزة المانع والدكتورة نورة السعد وأخريات".
أضاف "كان صلاح الدين عميق الصلة بالرواد، وكان يعقد جلسات أسبوعية يستضيف فيها رائدا في بيته الذي كان ينظر إليه كمنتدى ثقافي أسبوعي. وقد حضرت جلسات كثيرة منها على مدى الخمس وعشرين سنة الماضية".
الفلك يدور
في زاويته الشهيرة (الفلك يدور) كان محمد صلاح الدين من أوائل الكتاب الذي جعل من عموده الصحفي منارة إشعاع، وفنار متابعة، يراقب منها وفيها خريطة مستجدات العالم الجديد، مع السهر على كل تفصيل يصيب جسد العالم الإسلامي الكبير. وبالرغم من جبلته الهادئة، وصوته الخفيض، وملامحه التي تشع منها دائما روح الرضا والسكينة، إلا أن صوت قلمه كان يصم الآذان، عندما يكتب عن المؤسسات الخيرية، وأوجاع العالم الإسلامي وقضاياه الكبرى.
يقول خاشقجي الذي تولى بالتكليف رئاسة تحرير صحيفة المدينة مطلع العام 1412 "زاويته (الفلك يدور) لم تنقطع أبدا على مدى أربعة عقود، وكان يكتبها بالقلم الرصاص على نصف مساحة ورقة بيضاء A4 بخط جميل وواضح".
ويضيف أحمد محمود أن أبا عمرو كان "يطوى جناحيه على نفس مطمئنة، لا تعرف التلجلج، ولا اللجاجة، إذا ألقى أفكاره تلمس فيها نصاعة البياض وضوحا، ولا تحوم حولها شوائب". " أيضا كتابته للافتتاحيات السياسية، التي برع بها واشتهر، التزاما بمواعيدها، ورصانة في فكرها وتحليلها. وكان منضدو الصحيفة يتسابقون للفوز بتنضيد مقالاته، لجمال خطه ووضوحه، ويتنافس المصححون لتصحيحه لذات السبب".
وتابع محمود: حياة محمد صلاح الدين، ثرية بالتجارب والتحديات، عنوانها البارز العصامية وقدرته على خوض الصعاب من دون الاعتماد على الغير. ومع ذلك كانت سيرته كتابا مفتوحا أمام الجميع، الى الحد الذي تجد صعوبة في التقاط أسرار غامضة في سيرته الحياتية والعملية. وكان مشوار حياته الغني طولا وعرضا مكان (غبطة) أبناء جيله، وتلامذته.
ويتوقف خاشقجي عند نقطة مهمة قائلا "تفاجئك قدرته الهائلة في تنظيم وقته. ومهما كثرت المشاغل والمسؤوليات فإنه يجد وقتا حتى للرد على اتصال تم بطريق الخطأ، يتميز بأنه خفيف دائما، ولا يثقل على أحد كما أنه عندما يلبي الدعوات ويرتاد المجالس يظل صامتا، ولا يدخل في جدال قط. لا يسهر وحريص على النوم المبكر، كما أنه قليل السفر والإجازات". مؤكدا أنه "عاش حياته طولا وعرضا، وخاض غمار التجارة بقلب جسور، وأنشأ شركة ملاحة. لكنه كان يجد نفسه دائما قريبا من رائحة الحرف والحبر، وأصوات مكائن الطباعة، ومراجعة البروفات الأولية للصحف والمجلات والكتب وغيرها".
ويكشف خاشقجي أن صلاح الدين "جرب النشر المتخصص في لندن قبل إنشاء الشركة السعودية للأبحاث والنشر في بريطانيا، حيث أصدر في الثمانينات مجلة (أريبيا) وهي مجلة إسلامية باللغة الإنجليزية، لتكون راصدة لمرحلة الصحوة والتحول الإسلامي، قبل أن يغلقها بعد أن عانت الكثير وتوقفت في النهاية. كما أصدر لاحقا عددا من المجلات ومن بينها مجلة (أموال) المتخصصة في المصرفية الإسلامية، ومجلة طبية إسلامية، ومجلات الحج والبيئة وغرفة مكة التجارية، وغرفة جدة الصناعية، وكانت درة مجلاته (قبل أن يفقدها) مجلة الخطوط السعودية (أهلا وسهلا) التي كان يرأس تحريرها الأديب والوزير إياد مدني".
إسلامي مستقل
ووضع خاشقجي النقاط على مواقف صلاح الدين تجاه الحركات الإسلامية بقوله "هو رجل متدين ومتميز بأن له شبكة اتصالات واسعة، ومؤمن بالمشروع الإسلامي الوسطي والمعتدل. كان مستقلا ونسيج وحده، ولم يكن حزبيا في يوم من الأيام. بل كان مؤمنا بتيار إصلاحي إسلامي وعروبي، ويعد من أوائل المناوئين للفكر الشيوعي، وتيارات اليسار العربي".
وتوقف أحمد محمود أمام سؤال تحريضي للكشف عن أسرار أو مواقف لم تعرف عن معلمه، وقال "سؤال كهذا، أجد صعوبة في الإجابة عليه. فالأستاذ الكبير كما عرفته بعيد عن الغموض. فأنت تتعامل مع إنسان كبير، كبير القلب، عالي الهمة، طموح للتعلم، صادق الكلمة، مجامل لكنه بعيد عن المداهنة، كتاب منشور تقرؤه بسهولة، تعرف من أول لحظة فيه صفاء سريرته، نفس خالية من الشوائب، تعامل بعيد عن الغش، محب للناس جميعا، سهل القيادة والانقياد، ولهذا ترى صداقته تمتد بامتداد الخريطة الجغرافية، من اليابان إلى أوروبا ومن آسيا إلى أفريقيا، ومع أصحاب الديانات المختلفة".
جلطة دماغية
قال رئيس تحرير صحيفة البلاد علي حسون:
فوجئ العاملون في وكالة مكة للإعلام بسقوط مالكها على أرض المكتب بعد أن عاجلته جلطة في الدماغ.
حصلت الجلطة عقب وضوئه استعدادا لصلاة مغرب الخميس 18 نوفمبر الجاري.
نقل فورا من مكتبه في شارع حائل إلى طوارئ المركز الطبي الدولي القريب لإسعافه بشكل عاجل.
أجريت له الإسعافات الأولية وأشعة على الدماغ.
اتصل مدير المركز الطبي الدكتور وليد فتيحي بنظرائه في مستشفى الملك فيصل التخصصي لنقله بصورة عاجلة وإتمام العملية الجراحية تحت إشراف الاستشاريين والفريق الطبي بقسم جراحة المخ والأعصاب.
حالته الصحية مستقرة
قال مدير العلاقات العامة في مستشفى الملك فيصل التخصصي نجيب يماني:
إن محمد صلاح الدين ما زال يخضع للرعاية الطبية اللازمة في قسم العناية الفائقة في المستشفى.
أكد أن حالته الصحية مستقرة.
فاق لساعات عدة من غيبوبته الأسبوع الماضي.
ردد بعد إفاقته من الغيبوبة "الحمد لله أنا بخير" قبل أن يغيب عن الوعي ثانية.
خضع لعملية جراحية في الدماغ.