نحن نعتقد أننا نعرف بعضنا، نعيش افتراضات نحن بنيناها على أساس العشرة والمعرفة، ولكن هل هذا هو الواقع حقا؟ ألم نفاجأ يوما بتصرفات أو مواقف من أقرب الناس إلينا؟ أنا لا أتحدث هنا عن سلوكيات أو معتقدات أدت إلى نتائج مزعجة أو مؤلمة بل أيضا عن التي ليس لها ذاك الأثر الكبير على العلاقة، ولكن يظل عامل أنها كانت غير معروفة أو واضحة لنا يسبب التشتت والحيرة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تأتي مسألة الحكم على التصرفات والمواقف من منظور إيماننا بأننا مادمنا نعرف كل شيء عن هذا الشخص إذا نستطيع أن نحكم على ما يجري داخل وجدانه؛ أي النية! كم مرة حكمنا ووجدنا أن حكمنا كان لا يعكس شيئا سوى معلومات مغايرة تماما لما كان يجري داخل الآخر، على الأقل ليس بالدقة التي كنا نتوقعها، وهذا النقص في الدقة له أثر كبير أحيانا يهدم مستقبلا، أويقتل أملا، أو يقضي على علاقة.

كيف تكون ردة الفعل حينها؟ بعضنا يبدأ بإعادة الحسابات وقد يحاور الآخر بشفافية لسد الثغرات التي ظهرت للتمكن من التقرب أكثر، وبعضنا يبدأ بالهجوم على الآخر موجها إليه كل التهم متجاهلا أنه أصلا جزء من الكل، أي العلاقة، مهما كان نوعها وطبيعتها، أسرية، أواجتماعية أو مهنية، ثم هنالك من يتعامل مع هذه المواقف بكل سلبية بألا يحرك لديهم أي شيء، نعم يفاجؤون ولكن لا يكون لديهم أي ردة فعل وكأن الأمر لا يعنيهم من الأساس!

من المعروف أنه من فوائد العشرة والاتصال الدائم مع الغير وعلى فترات طويلة عادة ما يسهّل علينا القدرة على التنبؤ باحتياجاتهم ورغباتهم، ولكن هل هذا هو الحال دائما؟ وفقا لدراسة قام بها بنيامين شيبيهن من جامعة بازل، ويوتا ماتا من جامعة ستانفورد وبيتر تود من جامعة إنديانا، نجد أن النتائج تشير إلى أنه ليس كذلك، حيث إنه حين أجريت الدارسة على عينة مكونة من مجموعتين، الأولى ممن علاقتهم لم تتعد السنتين، والأخرى ممن علاقتهم وصلت عشر سنوات وما فوق، وكان المحور الرئيس في الأسئلة التي وجهت في الاستبيان للعينتين يشمل التنبؤ بما يفضل وما يحب وما يكره الشريك الآخر، فكانت نسبة الدقة في التنبؤ لدى أصحاب الفترة القصيرة 42 ?، أما نسبة توقعات أصحاب الفترة الطويلة كانت فقط 36 ? ، أما قبل الدراسة فلقد تنبأ أفراد كلا المجموعتين بأن دقتهم سوف تصل لما لا يقل عن 60 ?، وبرر واضعو الدراسة تلك النتائج إلى أن هناك العديد من الأسباب المحتملة منها أن وجود علاقة طويلة الأمد مع الآخرين يمكن أن يؤدي إلى انخفاض مستويات محاولات الفهم والتعرف أكثر على ما يحبه وما يكرهه الآخر وما يفضله، لأن نسبة كبيرة من فهمنا للآخر تحدث في المراحل المبكرة من العلاقات، حينها عادة ما تكون مستويات الدافعية للتعرف على بعضنا أعلى، ولكن مع مرور الوقت تنخفض الدوافع، قد يكون ذلك نتيجة لمعلومات هامة أو لتغييرات في أسلوب الحياة أو في مواجتها، فلا يلاحظ هذا الانخفاض، كما تقدم الدراسة سببا آخر محتملا هو فكرة أن الناس في العلاقات الطويلة الأمد عادة ما يعتبرون أنفسهم أكثر التزاما ببعضهم بحكم الفترة الطويلة، ونتيجة لذلك قد يظنون أنهم يعرفون بعضهم بشكل أفضل مما هو واقع فعلا، فلا يلاحظون التغييرات التي قد تكون غير واضحة أو مباشرة، لكنها تحدث، وتقول الدراسة أيضا إنه في بعض الحالات، قد يميل الناس في العلاقات طويلة الأمد إلى اقتراف ما نسميه "الكذب الأبيض" أو تجنب إبداء الرأي بصراحة وصدق خلال المحادثات، لعدم رغبتهم في جرح شعور الآخر أو تجنبا لحوارت قد تؤدي إلى مشادات ومشاكل، أو لإيمانهم أن هذا الآخر لن يفهم أو حتى لضيق الوقت، وهذه الطرق يمكن أن تؤدي أيضا إلى انخفاض في الفهم والمعرفة عن الآخر مع مرور الزمن، والناتج أنه كلما طالت مدة العلاقة تنخفض لدينا قدرة التنبؤ بتفضيلات الآخر.

نستفيد هنا أننا يجب ألا نأخذ أي علاقة في حياتنا على أنها أمر مفروغ منه، أي تحصيل حاصل، من غير أي عمل أو أي جهد متواصل في بناء هذه العلاقة، من خلال الملاحظة والحوار، ولا أعني أن نهاجم الآخر بالأسئلة حينما نقرر، ما أعنيه هو اختيار الوقت المناسب للطرفين، والتنويع في اختيار المواضيع لضخ روح التجديد، ولكن في نفس الوقت تتضح لنا زاوية من شخصية الآخر لم تكن ظاهرة لنا من قبل، أن نخرج من نطاق العلاقة وننظر إليها من الخارج نظرة جديدة، لأننا حينها سوف نتعامل معها كمن دخل فيها حديثا، يريد أن يعرف أكثر، وبنفس الوقت يظهر عليه الاهتمام من خلال كل وسائل الاتصال التي خلقها الرحمن بداخلنا، الظاهر منها والمحسوس، وعليه أنهي بأنه كي لا نفاجأ، كي لا نشعر أننا لا نعرف من هو الآخر في العلاقة، كي لا نخطئ في حساباتنا وتنبؤاتنا، لنصرف بعضا من الطاقة للتقرب والتجديد من أجل المعرفة والفهم.