أعظم كتاب أنزله الله على رسله هو القرآن العظيم؛ وصفه الله بأوصاف جليلة؛ تبين عظيم منزلته، وكبير مكانته، وجليل قدره. فهو القرآن الكريم المجيد وهو الكتاب الحكيم المبين العزيز، هو أحسن حديث وأصدق قيل؛ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. يهدي للتي هي أقوم في كل شأن؛ في المعاش والمعاد، في مصالح الدين والدنيا، في أمر الآخرة والأولى. لقد كان إنزال القرآن وتعليمه الناس أعظم منن الله على بني آدم (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن:1-2]؛ ولا غرو فالقرآن تقصر الألسنة عن إبانة كماله، ولا يحيط بيان بوصف بهائه وجميل أوصافه وعظيم النعمة في إنزاله. وهو أعظم آيات الأنبياء حجة وبرهانا فهو المعجزة الكبرى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فما من نبي إلا أعطاه الله من البراهين والآيات والمعجزات ما يؤمن على مثله البشر؛ كعصا موسى التي إذا ألقاها صارت حية تسعى، وضرب بها البحر فانفلق فكان كالطود العظيم، وضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، ومثله ما كان لعيسى من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من الآيات التي ذكرها الله تعالى في كتابه لبقية المرسلين عليهم صلوات الله وسلامه. ولقد أوتي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما أوتي النبيون من الآيات التي تصدقهم وتدل على صحة ما جاؤوا به، فكان صلى الله عليه وسلم في الذروة من ذلك، فما من آيات أوتيها نبي إلا ومَنَّ الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بمثلها أو أعظم منها. وسر ذلك التفضل وحكمته أن رسالات الأنبياء السابقين كانت خاصة بجنس بأقوامهم، فكان النبي يبعث لقومه خاصة، كما كانت محدودة زماناً ومكاناً، فأعطوا من الآيات والبينات ما يناسب حجم دعواتهم. أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعثه الله لكافة الناس وعامة الورى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولهذا أعطاه الله تعالى فوق ما أعطى غيره من الآيات والمعجزات ولم يجعلها مخصوصة بزمانه ومن شهده؛ بل أبقى له آية تشهد بصدقه وصحة ما جاء به عبر الزمان والمكان لا يحدها وقت ولا تحصرها جغرافيا، إنه القرآن العظيم والكتاب المبين، جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم :«ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة». فآيات القرآن باقية شاهدة بما جاء به من الحق والهدى.
لم تقترن بزمان وهي تخبرنا ... عن المعاد وعن عاد وعن إرم
دامت لدينا ففاقت كل معجزة ... من النبيّين إذ جاءت ولم تدم
فالقرآن المجيد أعظم آيات النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وأكبر شاهد، فيه الكفاية والحجة والدليل والبرهان، لذلك لما طلب المشركون المزيد من الآيات قال تعالى:(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى? عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى? لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(العنكبوت:51). ولقد وصف الله القرآن بأنه عظيم وامتن بإنزاله على النبي الكريم؛ وإن أوجه عظمة هذا الكتاب المبين وإعجازه تفوق الحصر، فهو كلام رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه تنزيل من حكيم حميد. وهذه جملة من أوجه عظمته وسمات إعجازه:
فمن أوجه إعجازه وعظمته حفظه من التغيير والتبديل على مر العصور وتقلب الأمور، فهو في الصدور محفوظ، وفي الكتب مسطور. فلو أن قارئا أخطأ في حركة منه لتنبه له الحفاظ وصوبوه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحِجر:9].
ومن أوجه إعجازه وعظمته تيسير حفظه على الناس مع عظيم بلاغته وإعجاز ألفاظه حتى من على غير أصحاب اللسان العربي.
ومن أوجه إعجازه وعظمته أن الله تحدى الأنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله في فصاحته وعلومه وأسراره وعجائبه وحججه وبراهينه. مع وقوة فصاحة ألسنة العرب زمن الوحي وكذا القرون بعدهم على امتداد الزمان.
ومن أوجه إعجازه وعظمته سلامته من التعارض والتناقض والاختلاف فليس ثمة شيء من ذلك على بسط بيانه وطول قرآنه(أَفَلاَ يَتَدَبَّرُوْنَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوْا فِيْهِ اخْتِلاَفًا كَثِيْرًا) [النساء:82].
ومن أوجه إعجازه وعظمته ما اشتمل عليه من عقائد راسخة وتشريع مُحكم ونظام متقن مصلح صالح لكل زمان ومكان في كل نواحي الحياة وشؤونها خاصة وعامة.
ومن أوجه إعجازه وعظمته ما تضمنه من أخبار غيبية سواء أكانت فيما مضى من الزمان أم فيما يأتي به الجديدان. فهنيئا للبشرية بهذا الكتاب إن آمنوا به وعملوا بهداه.