لصيادي جازان رحلاتهم اليومية بين زرقتي السماء والبحر، يبحرون فيها بقوارب خشبية لها أشرعة تجاهد لتمسك بحالها في مواجهة الهواء الضارب.. وكثيرا ما تحولت تلك القوارب إلى نعوش تعود بأصحابها إلى الشواطئ غرقى وقتلى وأنصاف أجساد بعد نهشات أسماك القرش.

وحين تقف على شاطئ جازان لترقب ذهاب الصيادين وإيابهم هناك، ستسمع مواويل وأغنيات يشدوا بها من اختبأ رزقه في لجة البحر، ستسمع من يصدح بـ"غدار يا بحر غدار"، وهو يترقب عودة ابنه وقاربه إلى شط الأمان، وهو الذي كان يوما شاهدا على رحلات ألم مات فيها من مات قبل سنين.


متعة الموت

ولم يكن البحر عند الصياد حمود يحيى أحمد كما اليوم، وكذلك الحياة.. إذ كانت رحلة صيد السمك أو اللؤلؤ تبدأ ممتعة.. كما يقول، ولكنها تنتهي بالموت فلا يعود من فيها إلا غريقا مسجى يعثر عليه في عرض البحر أو تلفظه أمواجه إلى شواطئه، ويتذكر حمود "كانت لمغامرات البحر ذكريات جميلة قبل 50 عاما، حين يودع قاصد البحر أهله وسط دموع وبكاء في رحلة تتفاوت ما بين الأسبوع إلى الشهر ما بين صيد وغوص".

مشيرا إلى أنه أمضى نصف قرن في هذه المهنة عرف فيها جزر البحر، وأماكن الصيد الوفير، ونال خبرة في التعرف على نوعية الأسماك، وثروات البحر التي نقلها للأجيال من بعده.


ذكريات الألم

ويسترسل الصياد حسن بهلول في سرد ذكريات خمسة عقود في بحر جازان: ولكن كانت رحلة الصيد أيضا متعبة لسوء القوارب، وغياب تقنية الاتصالات والمراقبة البحرية، ولم تكن هناك متابعة لخروج الصيادين وعودتهم، فكانت القوارب تلتقي من كل مكان في عرض البحر وبالقرب من الجزر التي صارت ملاذا لأولئك الصيادين عند هبوب العواصف وهطول الأمطار.

ولا ينسى بهلول أياما كان يعود فيها الصياد برفيق دربه مغطى في قارب الصيد بدلا من الصيد الثمين، "كان ذلك أشد الألم والفاجعة"، وعن ذلك الموقف يتنهد الصياد علي سوادي وهو يبحر في ذكرياته حين عادوا برفيق لهم مغطى بثوب في قاربه بعد انقلابه رأسا على عقب بسبب الريح القوية، وأضاف: "كان الترقب في عيون أطفاله وأسرته الذين انتظروه على الشاطئ، لكنهم صدموا عندما شاهدونا نحمل جثمانه بدلا من صيده، فارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب على ذلك الفقيد".


لمعان اللؤلؤ

أما إبراهيم موسى إبراهيم الذي عرف بصيد اللؤلؤ طيلة 40 عاما، فتحدث كثيرا عن رحلات صيد اللؤلؤ التي امتهنها، ويقول: كانت متعبة جدا، ولكن تعبها يمحوه لمعان اللؤلؤ حين نحمله في شباكنا. مشيرا إلى أن رحلات الغوص تبدأ بعد أن يستقبل 200 صياد القوارب الشراعية الكبيرة ويسمونها "السنابك"، ويبحرون مسافات بعيدة، وكانت جزيرة فرسان أهم مواطن اللؤلؤ الأصلي.

وكانت تلك الرحلات، بحسب إبراهيم موسى، تبدأ من الفجر وحتى وقت الظهر وبعدها يتم فرز اللؤلؤ. وعن أصعب مواقف الغوص، يقول إبراهيم: عند خروجنا أحد الأيام من البحر تأخر أحدنا في الرجوع إلى القارب، وأثناء محاولته الصعود التهم سمك القرش أرجله وسحبه إلى البحر ففقدناه، وتحولت الرحلة إلى حزن وبكاء.