يحكى عن ابن خلدون أنه كان يملك الحس التاريخي فحلّق بفكره عبر القرون، وما زالت مقدمته ترسانة فكرية لكل من أراد أن يتزود بالعقل السنني. والرجل اعترف أنه بقعدته لمدة خمسة أشهر مستريحا من وعثاء السياسة في قلعة عريف في المغرب، كانت السبب في وحي هذه الأفكار، من الحكم القريبة المحجوبة، التي لا تكشف عن نفسها إلا للآحاد من بني الخليقة. وهي نفس القصة في كشف قوانين الفيزياء والرياضيات أم المجتمع، سواء في رياضيات التفاضل والتكامل التي كشف غطاؤها في آن واحد للألماني لايبنتس والبريطاني نيوتن فاتهم كل منهما الآخر بالسرقة، وهي ليست بسرقة بل وميض متقارب في الرأسين، أو قانون الهندسة التحليلية عند ديكارت، أو نظام الكواكب عند غاليلو، أو عمر الدول عند ابن خلدون فكلها من نفس المعين. وروى المؤرخ البريطاني عن المؤرخ الجبرتي المصري أنه كان يملك تلك الحاسة المميزة في فهم ما يجري في الأرض المصرية مع قدوم حملة نابليون، فلم ينتبه كثيرا لفرقعات البارود بل أصغى بشدة لما يتم من إجراءات ومرافعات في محاكمة سليمان الحلبي، الذي اغتال الحاكم العسكري كليبر بعد أن رجع نابليون إلى فرنسا فنجا، وكان يمكن أن يتغير التاريخ لو أخذ أحدهما مكان الآخر، ولوفر مقتل مئات الآلاف في الساحة الأوروبية. ويحكى أن للينين نفس الحاسة التي هي ربما السابعة بإدراك اللحظة، وفي قناعتي كما يقول عالم الاجتماع العراقي (علي الوردي) في كتابه (خوارق اللاشعور أو أسرار الشخصية الناجحة) إن هذه الحاسة يملكها كل واحد منا بفارق من يتنبه لدقة ساعتها ومن يشخر عنها غير مبال. كل هذه المقدمة في ترسيخ هذا المفهوم يجعلني أطبق هذا على واقعة اجتماعية جرت في شتاء عام 2011 في الحريقة، وهو سوق كبير في دمشق، حين ضُرِب رجل من شرطي إهانة فاحتشد في لحظات جمهور غفير ينادي "الشعب السوري ما بينهان" (لا يهان)، وكان حتى تلك اللحظة يهان ويعذب على مدار الساعة، كانت الحادثة أشبه باجتماع سحب مجللة من الغيوم، وكانت الحادثة بمثابة القطرة الأولى من ماء منهمر من معصرات تحمل ماء ثجاجا، فتدفقت الدماء أنهارا في حماة وتلكلخ وجسر الشغور والرستن وحمص والقامشلي وأبو كمال. ولكن القيادة السورية لم تلتقط هذه اللحظة التاريخية لأنها لا تملك الحس التاريخي، ولا أدري ماذا أقول بكل أسف أم لحسن الحظ.. لأن ما جرى بعد ذلك وأنا من تجاوز الستين ويعرف الوضع السوري جيدا أقول لم نكن لنحلم بها ولا بأشد أحلامنا وردية، فقد انتفضت شريحة فدائية من الشعب تستقبل الموت مع كل تظاهر في بطولة تجعلني أنا السوري أرفع رأسي فخرا بهذا الشعب الذي انتمي له، والذي أتفاءل أن يحافظ على روح السلمية في تغييره، وهو الأمر الذي تحدثنا به منذ ثلاثين عاما؛ فلم يصغ أحد، وقالوا إنها روح واهنة وضد الجهاد ولا تنفع مع بني صهيون أو آل الأسد.. إن استخدام الحديد لمعالجة الكسور، واستخدام الإسبرين للصداع، وتطبيق أشعة رونتجن في كشف العلل، وتقنية جراحة البطن والصدر.. كلها كانت في يوم موضع نقاش حتى أخذ بها الجميع، فحبة الإسبرين يتناولها الصيني والصربي، وأشعة إكس لكشف سرطانات الثدي تطبقها المشافي الألمانية والسعودية، وجراحة الأوعية الدموية تطبق في فرنسا أم المغرب؛ فكلها أمور لم تبق موضع نقاش كما حملت الجماهير العربية الكفاح السلمي أسلوبا ناجعا في مواجهة الظلم.