لو أننا تأملنا واقعنا القضائي قبل نشأة قضاء المظالم ـ أي: قبل ستين عاماً ـ لوجدنا أن وحدة القضاء هي الأصل في نظام الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة؛ بمعنى: أن القضاء العام والإداري كانا في إطار واحد، بل كان ملوك آل سعود الأوائل يُنصفون من أنفسهم بالجلوس أمام قضاتهم الشرعيين في كل ما يستدعي مطالبة الدولة، وكانوا يسارعون إلى تنفيذ ما يصدر عليهم من أحكام، وزاد على ذلك جلالة المؤسس الملك عبدالعزيز غفر الله له، فكان ربما أصدر بنفسه أحكاماً جزائية ضد عماله ونوابه في الأقاليم بما يعتقده محققاً للعدالة التي يراها بما أعطاه الله من نظر سياسي وإلمام بعلوم الشريعة، كما كان عليه أسلافه يرحمهم الله. وفي السنة التي توفي فيها المؤسس يرحمه الله اقتضى نظر القيادة أن يُفصل القضاء الإداري عن القضاء العدلي بتشكيل دائرة للمظالم في ديوان مجلس الوزراء، وبعد ذلك بعام فُصل قضاء المظالم عن مجلس الوزراء؛ ليكون نواة لديوان المظالم الحالي، ثم في عام 1402هـ تحددت شخصية الديوان على أنه هيئة قضائية مستقلة، وحُدد مجال نظرها ليكون قضاء إدارياً وجزائياً وتأديبياً على النحو الوارد في المرسوم الملكي رقم (م/51) وتاريخ 17 /7 /1402هـ، وبعد خمسة أعوام ضُم إلى الديوان الاختصاص التجاري بعد حل المحكمة التجارية. هذا ملخص أحداث نشأة القضاء الإداري في المملكة العربية السعودية. وانتقال النظام القضائي من وحدة القضاء إلى ثنائية القضاء (اللاتيني).

إن نظرية الفصل بين القضاءين أنتجتها الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر بعد ظهور الفساد القضائي وتعسف النظام الحاكم، غير أن تحقق استقلال القضاء الإداري عن القضاء العام هناك لم يتشكل فعلاً إلا بعد أكثر من ثمانين عاماً من طروء تلك النظرية، وعبر مراحل عدة أدت في نهايتها إلى إلغاء النظام الملكي، علاوة على الفصل التام بين القضاءين. هذه الظروف التاريخية اضطر إليها الفرنسيون، ورأى مفكروهم وعلماء القانون هناك أن هذا الفصل هو الحل الأوحد لتقليل تسلط جهة الإدارة على حقوق الأفراد، وقد نجح الفصل نسبياً في تدارك ما بقي من كيان العدالة وفي لملمة ما تفرق من أعضائها. في تلك الحقبة كانت بريطانيا تنعم بحكم عادل يشرف عليه ملوكها إشرافاً مباشراً، فلم يكن بهم حاجة لما اضطر إليه الفرنسيون، وهذه سمة في كل نظام عادل يثق في قضائه؛ إذ الفصل ما هو إلا حل طارئ واستثنائي، ومن لوازم تلك الحلول أن تزول بزوال أسبابها، فتعود وحدة القضاء كما كانت قبل ذلك، وكما هي موجودة في جميع الدول ولدى جميع الأعراق. لقد أدرك الإنجليز أن وحدة القضاء تعزز الثقة بين الحاكم والشعب، كما أنها تحقق العدل بين الأفراد والمؤسسات وجهات الإدارة بتوحيد إجراءات التقاضي في كل منها، وتحقيق مبدأ المساواة أمام القضاء في أجلى صوره؛ فحققوا بانتهاج وحدة القضاء توحيد السياسات القضائية، وإخضاع جهات التقاضي للمبادئ القضائية العامة، مما قلل من اختراق المؤسسة القضائية من الخارج، أو انحرافها من الداخل.

إن نظام وحدة القضاء هو المؤشر الأوحد على ثقة الدولة في إدارتها، وفي قضائها، وفي قضاتها، وفي قانونها العام، ولذلك لم يبتدعه إلا من ابتلي بالفساد الإداري والقضائي، ونأى عنه من سلم من ذلك من المجتمعات الأوروبية. لقد انتقل مبدأ الفصل بين القضاءين العدلي والإداري إلى مصر عبر إرسالياتها العلمية، وعملت جامعاتها على نشره في العالم العربي بتدريس تلك الثقافة القانونية المستوردة من فرنسا. لم يدرك المناصرون لمبدأ الفصل هذا أنهم سيُقدمون على أحد أمرين لا ثالث لهما؛ الأول: أن يستقل القضاء الإداري فعلاً عن جهة الإدارة وعن المؤسسة القضائية العامة، فيُنشئ له مبادئ تخصه بمنأىً عن أي رقابة، فتتكون بذلك حكومة داخل الحكومة، بتنامي ذلك النفوذ شيئاً فشيئاً ليكون جموحاً، فيأتي على القضاء الإداري وقت يتسلط فيه على المال العام، فتظهر أحكام التعويض المبالغ فيها، فترهق ميزانيات الدولة بأعباء تلك الأحكام، وتتعطل منها مسيرة التنمية، إضافة إلى أن ذلك الجموح مدعاة لاختراق ذلك القضاء من كل طامع، فيعود الفصل بين القضاءين على الأمة بتعزيز الفساد القضائي الذي هرب واضعوه منه على نحوٍ أسوأ. الثاني: أن يضعف القضاء الإداري عن مواجهة الإدارة، فيستجيب للاستثناءات والقيود على أعماله، ويستسلم للتدخلات من أصحاب النفوذ المالي والإداري، فيكون أداة طاردة للعدالة ذائدة عن الحق الفطري لكل مستضعف سليب. لقد انتبه لشذوذ مبدأ الفصل هذا معالي الشيخ صالح الحصين رئيس شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، فقال في ورقة عمل خلال أحد الملتقيات القضائية: "لا شك في شذوذ هذا الوضع، فالمعروف أن الدولة الحديثة تراعي مبدأ وحدة القضاء، وهذا المبدأ جاء من فلسفة العدل، إذ الأصل لتحقيق العدل المثالي أن يفصل في الخصومات قاض واحد، ولكن لما لم يكن هذا الأمر ممكناً عملياً، فقد كان الهدف دائماً وحدة جهة القضاء في البلد". هكذا قال يحفظه الله، وهو رجل الشرع والقانون المجمع على فضله وأمانته. إن تطور النظريات في العالم من البدهيات التي يجب على العقلاء إدراكها، وعدم إهمالها في دراساتهم الاجتماعية والقانونية، ولا خير في التشبث بنظريات لم تكن لتصلح إلا في أماكن ابتداعها أو في زمان نشأتها، كما أن السعي لتحصيل أفضل النتائج مطلب أممي، وعلى أهل الاختصاص تطلبه وتدقيقه، ثم الدعوة إليه وبيانه للأمة. وكما ثبت لنا أن فصل القضاءين من الأمور الشاذة، فكذلك وحدة القضاء بمفهومه التقليدي أمر مستحيل التطبيق، فلم يعد للقاضي الموسوعة وجود في زماننا اليوم، ولن تحتاج له الأمم إلا في المجتمعات القبلية التي تغزوها المدنية رويداً رويداً، وتنحسر معها جميع مظاهر البدائية في التعاملات الخاصة والعامة.

إن القول بوحدة القضاء هو الأصل الذي ينبغي الانطلاق منه نحو التطور المطلوب، وتجاه مستجدات كل عصر ومصر، وتطوير هذه النظرية بانتهاج القضاء المتخصص تحت المظلة القضائية العامة؛ ليكون في المجتمع محاكم تجارية، وعمالية، وأسرية، وإدارية، وجزائية، وغيرها مما تحتاجه الدولة بحسب قدراتها ونسبة تعليم مجتمعها. لقد تبنت مبدأ وحدة القضاء المطور دولٌ عربية، بعد أن جرب بعضها مبدأ الفصل بين القضاءين العام والإداري، وما تحول هؤلاء القوم عن مبدأ الفصل إلا بعد أن وقعوا في شراك سلبيات هذا المبدأ الشاذ.