لم تكتمل الصورة بعد؛ التفاصيل المذهلة تأتي تباعاً من الشام. عقود الاستعباد الطويلة تكشف عن وجهها بالصوت والصورة وأنين الفواجع، وأوراق التوت لا تكفي لستر عورة مغلظة. أشباه الرجال يركلون الأمهات والكهول بالأقدام؛ ثم ينتشون فرحاً بصورة تذكارية، ورقصة موت أخيرة على جثة مواطن كل ذنبه أنه قال: لا. في زمن عاق، ولحكام مستبدين. العالم يتفرج ويدين ويستنكر كالعادة، ثم يفتش في أدراجه عن صفقة تقنع روسيا بألا تستخدم الفيتو. بينما يتواصل مشهد خراب الروح، والإنسان، والمبادئ. يُطل القمع برأسه ليكشف بعض المستور العربي، وأراجيف الممانعة المنحلة والكاذبة، الطفل حمزة الخطيب يخرج جثة هامدة، وعليه آثار تعذيب من أيام القرون الوسطى، وبعدها تظهر جثة الطفل ثامر محمد الشرعي، وعليها من التعذيب أيضاً ما يكسر كل الأقلام والأصنام والكلمات. فنتذكر ـ بعار كبير ـ أن إسرائيل التي نلعنها صباح مساء؛ ربما هي أرحم من عرب المقاومة، إذ لم تقتل أطفالها في يوم من الأيام، ولم تقطع أعضاءهم التناسلية، ولم تسلخ أرجلهم قبل الموت، وكم هو مؤلم أن تعترف برحمة عدوك؛ الذي تكرهه واقعاً وتاريخاً ومستقبلاً، وأن تقول براحة بال: إن كل البصمات التي أحدثتها إسرائيل على الجسد العربي؛ تبدو أقل بكثير من مرارة البصمات الهمجية التي يحدثها عرب المقاومة على أجساد أطفال ونساء الأهل والخلان. أنا بكامل قواي العقلية، وأعي جيداً ما أقول، فإسرائيل تقتل.. نعم، وتعتقل.. نعم، لكنها لا تقتل شعبها بل تقتل أعداءها، وهو شيء متوقع. أما أن تأتي حكومة عربية؛ صامدة ومقاومة، ولها كرامة كما تدعي، ثم تفعل الأفاعيل بشعبها، فذلك ما لا يمكن تبريره تحت أي ظرف، وها هو الشعب البائس في سورية ينتظر غراباً يأتي من الغيب كي يعلم حُماة الديار وشبيحتها كيف يوارون السوءة، وكيف يحمون أطفال البلد كما تحمي إسرائيل أطفالها. المبررون ينسحبون من على شاشات المقاومة، سدنتهم لا يجدون وصفاً لائقاً ولا حجة وجيهة لسيد الممانعة. النسخة الثانية من حماة 1982 تعم كل مدن سورية تذكر الجيل الجديد بأن الطغاة يتناسلون، وبأن النطف الملعونة لا تزال على عهد الإجرام. أخبار وصور المجازر الفظيعة تصل إلى كل أرجاء العالم المندهش من وجود حيوانات آدمية في هذا العصر، ويسيل الدم.. يتلفع بسواد قلب عروبة كان نابضاً وفارقاً في يوم من الأيام، قبل أن يأتي المجوس، والشبيحة، وطوال الشوارب يغرس الوهن حرابه في النظام الذي لا يستجيب.. تنتهي الصلاحية، ووعود الإصلاح، بينما تستمر غواية الشبيحة، والقتل، والطغيان.

الحزب المقدس يعلن عن اجتماعه الأول بعد ستة أشهر على المأساة، لمناقشة الوضع، وتهدئة النفوس، وكأن الأحداث منذ البداية تجري في كوكب آخر. لكنه سيكون اجتماعاً قطرياً للتصفيق والتضامن مع سيد الممانعة، وحتى لو مات الشعب كله فلا تغيير في أبجديات الديناصور.. جزء من الأرض تحت الاحتلال منذ أربعين سنة. طائرات العدو الحقيقي تستعرض قوتها مرات ومرات فوق قصر الرئيس، تذله، وتهينه، وتمسح بكرامته الأرض، لكن حُماة / شبيحة الديار لا يُحركون ساكناً. فالسيد الممانع وحده من يحتفظ ـ دائماً ـ بحق الرد في الوقت والزمان المناسبين، ولم يفعل ولن يفعل! المادة الثامنة من الدستور تخالف كل دساتير العالم، وتُلغي بقية الشعب من غير المنتسبين والمنتفعين: (حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في الدولة والمجتمع، ويقود جبهة تقدمية وطنية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية)! من هنا أتت المأساة، هذه المادة وحدها كفيلة بالقتل، والهيمنة، والتسلط، وبها أصبح البعثيون أمة منقرضة تعيش على هامش العصر، تصفق وترتزق ولا شيء آخر.. الطاغية يربط الحداثة والعصرنة والإصلاح بالأمن؛ أمن الشبيحة، وأمنه هو، وعائلته، وإخوته من الرضاعة. لكن ما لا يعلمه الشبيحة وقائدهم أن هذه أيامهم الأخيرة.. ابن خلدون يقرر في مقدمته أن ازدياد الظلم إيذان بخراب العمران. فهل رأيتم ظلماً أعظم مما في سورية هذه الأيام؟!