أفهم أن يتم إغلاق تخصصات كونها تمثل جانبا نظريا تعداه الزمن، ولم يعد يحتاجه العصر، ولا يندرج ضمن متطلبات المستقبل، أما أن تغلَق تخصصات حيوية مازال سوق العمل بحاجة ماسة لها وفي اتصال مستقبلي معها، فهذه سابقة عظيمة تسجل لوزارة الصحة لتفردها بقرار إغلاق المعاهد الصحية الذي فاجأ المتخصصين والاقتصاديين والطلبة على وجه العموم. وأحاول أن أفهم السر ـ مع المتفاجئين بالقرار ـ خلف ادعاء معالجة انخفاض مستوى تأهيل الخريجين برفع درجة الشهادة من دبلوم إلى بكالوريوس، لو كانت المشكلة في درجة الشهادة! لكن وزارة الصحة في الوقت الذي تتنكر فيه لشهادة الدبلوم تتقدم بالتأشيرات لكافة أقطار العالم لاستقطاب عمالة فنية تحمل ذات الشهادة، لتقفز أرقام وأعداد المطلوبين لشغل الوظائف الفنية الصحية من الخارج إلى عشرات الآلاف، مما اضطر الوزارة للتنازل لحساب الكم على حساب الجودة والنوعية والأهلية، فإحصائيات الهيئة السعودية للتخصصات الصحية تذكر أن أعداداً كبيرة من الفنيين الذين تم استقدامهم غير مؤهلين وفشلوا في اجتياز امتحانات التصنيف، إضافة إلى أن عدداً ليس بالقليل منهم ثبت تزويرهم لشهاداتهم. ورغم أن مخرجات المعاهد الصحية تخضع لتقييم الهيئة، وتقوم بالتأكد من تأهيلهم كممارسين صحيين في إطار مهامهم الفنية والوظيفية قبل ممارستهم الفعلية للعمل، وفي حال إخفاق الطلاب في اجتياز امتحانات التصنيف تقوم المعاهد الصحية بإعادة تأهيلهم مجاناً وإخضاعهم مرة أخرى لامتحان تصنيف الهيئة، مما يدل على أن الهيئة والمعاهد شريكان في عملية تطوير وتحسين جودة مخرجات هذه المعاهد، إلا أن الاعتراف بأن المشكلة الأساسية هي"مفهوم جودة" وليس درجة شهادة كان عصياً عن التصريح والبوح. فانخفاض مستوى المخرجات يشمل خريجي الجامعات، فهل ذلك سبب وجيه لرفع درجة النجاح للجامعات إلى ماجستير مثلا؟! ويزيد العجب إيقاف الهيئة الصحية تخصص "طب الطوارئ"، في حين مازال عدد المسعفين أقل من 3000 بينما العدد المطلوب 6000 لكي نصل للحد الأدنى للمعايير العالمية، مما يجعل القطاع الإسعافي في أزمة حقيقية من ناحية القوة البشرية تفوق الأزمة الحالية، ذكر ذلك رئيس مجلس إدارة طب الطوارئ مقحم الدعجاني، متوقعاً أنه بعد 7 أو 8 سنوات، لن يكون عندنا مسعفون ولا مشغلو إسعاف!! وإذا علمنا أن الإسعاف الجوي والأرضي في أميركا وكندا يشتغل دون البكالوريوس فهل طموح وزارة الصحة وصل إلى النجوم مثلاً؟! مدير إدارة التدريب بهيئة الهلال الأحمر السعودي الدكتور "رشيد العيد" لخص الحل بكل جدارة مبيناً أن الإغلاق جزء في نهاية الحل، بعد سلسلة من الإجراءات تتلخص في أربع نقاط أساسية: تحديد الاحتياج في كل تخصص من كل مستوى تعليمي، ووضع معايير تخصصية دقيقة لكل تخصص فني، مع فتح المجال للاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في هذا المضمار، وإنشاء نظام رقابي صارم لتطبيق هذه المعايير للتأكد من أن العملية التدريبية تسير وفق النهج المرسوم لها، ثم إغلاق أي مؤسسة تدريبية حكومية كانت أو خاصة لا تلتزم بالمعايير والأنظمة المحددة. تخبرنا الدراسات أنه على الرغم من ضخامة حجم الإنفاق الحكومي في مجال الموارد البشرية، إلا أن النتائج المتحققة منه على أرض الواقع جاءت عكس المستهدف؛ تمثلت في ازدياد معدلات نمو العمالة الوافدة، مما يشير إلى وجود خلل في عملية إدارة تنمية الموارد البشرية، سواء من حيث تشخيص المشاكل أو أساليب وسياسات التخطيط المطبقة لتنمية الموارد البشرية أو من حيث أساليب وبرامج التنفيذ أو المتابعة والرقابة. ولعل مؤشرات الخلل تتجلى بقرارات تفتقد لمنهجية التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى، كقرار إغلاق المعاهد الصحية الذي هجم بشراسة "خذوه فغلّوه"، رغم آثاره السلبية حاضراً ومستقبلاً.

إن الخطط التنموية كما تهتم بتنمية الموارد البشرية، فهي تسعى لاستقطاب القطاع الخاص للمشاركة في تنفيذ برامج التنمية، فالقطاع الخاص كما الحكومي معني بتطبيق القرارات والخطط التنموية التي تتوجها خطة السعودة، والمستثمرون في قطاع التعليم الصحي دفعوا مئات الملايين لإنشاء هذه المعاهد لتكون مقارّ تعليمية صالحة حسب معايير الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، وبإيجار طويل الأجل، وقاموا بتجهيزها بالمعامل والمختبرات الإكلينيكية، والتزموا بقروض بنكية عالية لتمويل تلك المعاهد وتشغيلها، فهل من العدالة أن يتحملوا تبعات تقصير الهيئة الصحية الرقابية في ظل معايير عائمة غير محددة؟! لاشك أن إغلاق المعاهد سيؤثر سلبا على مستقبل السعودة كمشروع وطني استراتيجي، وعلى سعودة القطاع الخاص تحديدا، فالاعتماد على درجة البكالوريوس لا يصلح لجميع العاملين في القطاع الصحي، كما أنه يعد هدرا اقتصاديا، فتكلفة تأهيل العاملين في القطاع الصحي عالية مقارنة بغيرها من التخصصات، وبالتالي تكليفهم بأعمال لا تراعي مستوى التأهيل ينعكس سلباً على مدى الرضا الوظيفي لدى العاملين، ويحمل ميزانيات تشغيل المستشفيات أعباء مالية يمكن توفيرها دون أن يتأثر مستوى الخدمة الطبية. فعامل الجذب للقطاع الخاص وثيق الصلة بالتكلفة، والمستثمر لا بد أن يثق بأن مشروعه مثمر يساهم في السعودة، ولكنه أيضاً لا يكلفه جهداً ومالاً لاحاجة له. يؤكد الأمين العام للهيئة السعودية للتخصصات الصحية الدكتور عبدالعزيز الصائغ "أن هناك 28 ألف طالب وطالبة حالياً على مقاعد الدراسة بالمعاهد الصحية، ومع هذا العدد الذي سيضاف إليه خريجو الجامعات لن يسدوا الاحتياج والنقص، وستظل الحاجة أكثر بكثير قائمةً ومستمرة ولكنها ستتناقص مع مرور الوقت". والسؤال: كيف سيتناقص الاحتياج مع الوقت في الوقت الذي تهدر فيه طاقات وطنية وتعطّل باستبدالها بأخرى مستقدمة تحمل ذات الشهادة التي ترفضها الهيئة؟! وهل الدبلوم مرفوض لحامله السعودي مقبول لحامله الأجنبي إلا إن كان الأمر محاربة صريحة للسعودة؟! أو مدارة على نقص الرقابة والإشراف والتأهيل المطلوب للهيئة الصحية والالتفاف على الأمر الملكي الكريم الذي كان واضحاً بدراسة وضع هذه المعاهد وحل الإشكال وإغلاق ما يعترض مع المصلحة العامة؟!