هكذا بدأت مرحلة ما بعد القذافي بخطاب رئيس المجلس الانتقالي الليبي عبد الجليل: "أما ما يختص بالقذافي ومن مشى على دربه فسوف يخضعون لحكم القانون، وأنا أول من يحاكم، لأنني خدمت في حكومته أربع سنين".

إنها بداية طيبة ولا شك أليس كذلك؟ إنه أمر لم يسمع من قبل في العالم العربي من نقد الذات والاعتراف بالذنب، وأن الدولة هي دولة قانون. قالها الرجل لأنه كان وزير عدل في حكومة إجرامية، فككت كل الدولة لتبقى العصابة تحت اسم كبير، الاشتراكية العظمى والكتاب الأخضر مقارنة بالأحمر الصيني. بريطانيا تسمي نفسها بريطانيا العظمى، لماذا لا نسمي القط أسدا طالما هما من فصيلة السنوريات! إنها نكتة كبيرة ولكن لا تضحك أحدا.. يقول النيهوم في كتاب محنة ثقافة مزورة: إن من يمشي على رأسه يفقد رأسه ورجليه معا. أظن أن العالم العربي برمته يحتفل بالخلاص من كابوس هذا الرجل. أعترف للقارئ أنني كنت أستخف بالرجل وأعتبره مجرد مهرج، وأن الشعب الليبي سوف يتخلص منه بنفخة هواء. ولكن ما قاله ابنه في أول اضطراب صدق بحذافيره؛ نحن نملك السلاح وأنتم تملكون السلاح والحرب الأهلية بانتظارنا. فعلا خاض الثوار في وجه هذا المجنون حربا ضروسا، خسروا فيها أرواح خمسين ألفا، ومعوقين خمسمائة ألف، ونزوح أكثر من مليون. ولم يكونوا ليحققوا انتصارهم لولا الفرنسيس والجرمان والطليان! أليس مأساة أن الليبيين أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من المذبحة العارمة على يد هذا المجنون، فيأتي الناتو فيخلصهم من هذا الدموي وعائلته التي وصفتها مجلة در شبيجل الألمانية بأنها عائلة غير معقولة (مو معقول Unmoegliche Familie). أذكر جيدا قسمات وجهه المخيفة حين زحف على بنغازي، وهو يزعق كمجانين مصحات الأمراض النفسية اقتلوهم دون شفقة ولا رحمة. المشكلة أن مصحة الأمراض النفسية في العالم العربي تضم كثيرين دون أطباء وأسوار ودواء. ما معنى أن الأسد الصغير يقتل ثم يقتل ثم يقتل وما من رادع؟ هل هو مصاب بداء الكسيثيميا فقدان العواطف! أذكر جيدا كلمات المعتوه الليبي الأخيرة وهي كلمات نظام محتضر، سنزحف عليهم بالملايين ودون سلاح، ونقضي عليهم بضربة واحدة. كان يتنبأ بأنه سينتهي بضربة واحدة. ربما سجل كلماته هذه من مخبأ أو من المنفى عند صديقه شافيز، الذي يكسب عداوة العرب باصطفافه جنب طواغيت العرب. لا أفهم لماذا؟ قد يكون له ما يبرره في تحديه للإمبريالية الأميركية، ولكن ليست كل أميركا امبريالية، كما أن طغاة العالم العربي مخيفون لشعوبهم، يذكرون بدراكولا مصاص الدماء الليلي. هم هنا في الليل والنهار. كيف نفهم شلال الدم في سوريا؟ بعد أن خرج مندوب الأمم المتحدة من حمص تأملت صور اليوتيوب من جديد، شباب في عمر الورد يغسل الدم جباههم! تأملت الصورة كثيرا وحزنت واقتربت دمعة من الانحدار. قالت لي ابنتي أروى في مونتريال في كندا: بابا إن صور هؤلاء المساكين في درعا على ظهر المسجد، وبقايا من طعام بسيط في أيديهم وقد انفلقت جماجمهم بالرصاص جعلتني لا أنام ليلتي تلك! قلت لها هي نفس مشاعري يابنيتي، ولقد كتبت عنها مقالة في صحيفة الوطن السعودية بعنوان هل من تفسير؟ أسرعت ابنتي المحامية بشرى وأنا أعرف نقدها لي دون رحمة حول كتاباتي، فلما قرأتها قالت هذه المرة رائعة! حمدت الله أن نجحتُ في امتحانها. خروج هالة المصراتية المذيعة الليبية بالمسدس على الهواء يعبر جيدا أين تعيش ليبيا.. كما أن كلمات عبد الجليل توحي بعصر جديد.. هل تعلمون أصعب مهمة على الليبيين؟ إنها إعادة البناء بعد خراب نصف قرن على يد كاليجولا ليبيا.

من هو كاليجولا؟ هذا له حديث آخر.