في جبال عسير، يقولون للمجتهد الصادق: "الله يهب لك حظ"، ويبدو أن أحداً قد دعا للدكتور عبدالعزيز خوجة، بمثل هذا الدعاء، حتّى إن السفارات التي تولاها الشاعر المكّي، كانت في بلدانٍ تُشدّ إليها رحال السائحين، حيث يكثرُ غيثُ المعاني، بالنسبة إلى شاعرٍ حجازيٍّ اعتادَ التآخي مع اللغةِ السالمة؛ فقد عُيّن سفيراً للمملكة في: تركيا 1986 - 1992، وروسيا 1992 - 1996، والمغرب 1996 - 2004, ولبنان 2004 – 2009، وكأنّ هذه السفارات الممتازة، أتتْ إلى الشاعر الحجازي الرقيق "تجرجر أذيالها، فلم تك تصلح إلا له، ولم يك يصلح إلا لها".

لم يقف الحظُّ الحسَنُ عند العمل سفيراً في بلدانٍ تفوح القصيدةُ من ثالوثها الحسَن، وإنما سارَ معه إلى الوزارة، فعادَ وزيراً إلى وزارةٍ، طالما ندَفَ فيها قطنَ الأوراق، في حقبةٍ رقراقةٍ بالطموحات، حين كان ـ في مطلع القرن الهجري ـ وكيلاً لوزارة الإعلام للشؤون الإعلامية، وقائماً بأعمال مدير عام جهاز تلفزيون الخليج، وليس أجمل للإنسان من أن يعودَ ـ بعد تراكم التجارب ـ إلى الوراء، وهو في الأمام، ليستدرك، ويستذكر، ويستكمل، لأنه عائدٌ إلى تلك التي شكّلت في عقله فيالق من الأفكار، عائدٌ إليها وقد زادَ الحِمْلُ، واختلفت الأحوال.

وأمام الحظّ الذي يستحقه عبدالعزيز خوجة، نقول: إن الحظّ، قد تآزر مع العزم، وحسن القصد، ونبل الأخلاق، والتواضع، في الشطر الإعلامي من الوزارة/الوزارتين، فشهد عهدُه تحولاتنا التلفزيونية والإذاعية التي أتعبتْ أحلامَنا، واستنزَفتْ أقلامَنا، إلى أن بتنا نفاخر بتعدد قنواتنا التلفزيونية، طالبين الانتقال إلى "الكيف"، بعد اجتياز "الكم" و"الوجود"، بل وأصبح لنا ـ عبر هذه القنوات ـ صوتٌ ثنائيٌّ حقيقيٌّ، كالحياة كلّها، وذلك بدهي بالنسبة إلى سفيرٍ طاف البلاد، ورأى أن المجتمعات مكونة من "زوجين اثنين"، ولذا رأيناهنّ بعد أن كانت شاشاتُنا كلّها "ذكَورة" جامدة، لا تأتيها المرأةُ من بين يديها ولا من خلفها، إلا خفْيةً في "البيت السعيد"، أو "طبق اليوم" أحياناً، وبتنا أسعد بانفتاح فضائنا الأثيري على إذاعاتٍ، لم تجد هويّاتها حتى الآن، لكنها وُجدت، وهو المهم في البدء الأوّل.

في الشطر الإعلامي من الوزارة، تبقّت أمام أستاذ الكيمياء، مسائلُ تشبه المعادلات الكيمائيّة، ولن يعجزَ عن حلّها، لأن ما كان يُقال عن عقود الإنتاج ذات الأرقام الضخمة، قد تلاشى، ولأن هذه المسائل تقع خلف لافتةٍ مكتوب عليها "ممكن جدّاً"، وأهمّها إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّة، قبل أن "ينشفَ ريقُه"، وقبل أن يتحوّل غبْنُ "المتعاونين في الفضاء" إلى غصّةٍ، تتلوها دمعةٌ فإحباطٌ فإهمالٌ فرداءة.

الدبلوماسيّ الوزير يهتم بتلك المسألة، ويرسل إشارات الطمأنة حولها، عبر صفحتِه على "الفيس بوك"، أو من خلال تصريحاتٍ إعلاميّةٍ مباشرة، وتلك حسنةٌ كبيرةٌ له في ذاتها، لأنّ الحديثَ ـ جهراً ـ عن الحقوق الماليّة للعاملين نهجٌ جديد، يمكن أن يقودَ إلى عدلٍ ذي زرع، ولأننا لم نعتد على مسؤولٍ متفاعل، يجيب السائلين، ويعد المطالِبين.

مشكلات الشاعر الوزير مع الشطر الإعلامي من الوزارة، ليست كبيرةً بالقدر الذي يجعلها عصيّةً على ذي قرار وإخلاص، وهو كذلك، بيد أن مشكلاته الحقيقية كامنةٌ في الشطر الثقافي، فلم يرض أدباءُ الأندية التي توصفُ بأنّها "أدبيّة"، ولم تتغيّر مركزيّة الجمعيات التي بقيت فروعاً تستدرّ دعمَ أنشطتها، بخطط المناشط، أو بقايا "الفواتير"، ولم تستطع الجمعيّات النوعيّة أن تصنعَ فعلاً، وهي تستند إلى جدارٍ اسمُه "رسوم العضويّة".

لم يرضَ هؤلاء، وأولئك، لأنّ بقايا "رماد" عام التعيينات، وما قيل عن "الفيتامينات"، باق في العيون، ما لم تذره رياحٌ من قرار، بعد أن صارَ لكلِّ طارئ على هذه المؤسسات طبلٌ وجمهور، بينما أهلها الحقيقيون يتأمّلونها، وهي ـ بالنسبة إليهم ـ "كشِعب بوان"؛ يتأملونها نافخين في نايٍ مكسور، لا صوت له ولا صدى، والمدى طافرٌ بإيقاعات الطبول.

في الشطر المقدّم لفظاً، والموخّر فعلاً، من الوزارة؛ لم تستطع اللوائح أن تكونَ حكَماً، بعد أن مسّتْها نار التعديلات، فأحالتها إلى "جوائح"، كثيرة الثقوب، متعدّدة المداخل، لا يعرفُ القانونيون أعلاها من أسفلها، وكأنّهم أمام أضغاثِ قانون، لا أمام قانون يحدّ ويحدّد، ويعيدُ المياه إلى مساراتها، بعد انحرافها ذات غفلةٍ إلى مزارع اليباس، حيث لا فرق بين الشوك والتين، ولا تفريق بين "الأدب" ونواقضه.

الوزير الشّاعر الدبلوماسي، يعد النّورَ بمستقبلٍ أكثر إشعاعاً، وللوطن والنور والتنوير وأسئلة الوعي والتغيير فيه آمالٌ فوقَها آمال، وهو الشاعرُ الذي سطّر "حلم الفراشة"، وأرسل "مئة قصيدة للقمر"، فهل يشهد عهده "رحلة البدء والمنتهى"؟ البدء في طريق نحو أعوامٍ تُغاثُ فيها الثقافة، كيلا تتفوّه وأهلُها إلا بالعطر والجمال والإبداع والسلام، والمنتهى من تمدّد الفراغ على بساط العقول.

ذلك "ممكنٌ"، بالكثير من الإصغاء، والحسم، والجرأة على الاستئصال، وإعادة اللوائح إلى سيرتِها الأولى، وممكنٌ بالقليل من الدبلوماسيّة مع الفصيلة التي لا تستسيغ الفعل الثقافي إلا قفْراً مهجوراً من أهله.

عبدالعزيز خوجة، مسؤولٌ يسهلُ الوصولُ إليه، عبر الوسائط كلّها. يحتفظ بمسافةٍ واحدةٍ من الأطياف جميعِها، ويمنح الآخرين الشعورَ بأهمية ما يفعلون، ولذا تتكاثرُ حوله الرغبات والأحلام والآمال والأقوال، وهو لها، لأنّه كذلك.