"بمجرد أن تقترب من أحد المجمعات والأسواق سينخطف بصرك من فلاشات سيارات الهيئة الجديدة ذات الأوزان الثقيلة، وهي تصنع شبه طوق قبل أن تجد الراجلين منهم يمسحون الأسواق جيئة وذهابا مترصدين لمن يشتبهون بهم أو يرتابون".

العبارة السابقة مقتطفة من تحقيق نشرته صحيفة الحياة يوم الاثنين 22 رمضان 1432 استعرضت فيه القدرات المادية والصلاحيات الباهظة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عنه المنكر، وإعلانها عن زج 1880 رجل ميدان إضافيا للسيطرة على الأسواق وأماكن الازدحام في شهر رمضان، وانقسام الناس بين مؤيد لوجودهم ومفضل لغيابهم.

لاحظ الكثيرون انتشار رجال الهيئة وزيادة جولاتهم الميدانية والوقوف بسياراتهم على أرصفة المجمعات والأسواق، يقول أحد المواطنين: "سبق أن طردت من باب المجمع أثناء انتظاري لعائلتي، دون أن أفعل شيئاً"، متسائلاً عن "المظهر الذي يجب أن يكون عليه الشخص حتى لا يتعرض للملاحقة والأذى". ربما الجواب الشافي له جسدته إحدى حلقات مسلسل طاش ما طاش عندما كان يقف بعضهم على أحد معابر الدخول، ليفسحوا الطريق لمن التحى وقصر ثوبه، ويطردوا المخالفين لهذا الشكل رجفاً وركلاً.

وتذكر الصحيفة أنه "في الوقت الذي يؤكد فيه القانون أنه ليس من حق أحد أيا كان (ومن ضمنهم رجال الهيئة) الاعتداء على خصوصيات المواطنين والمقيمين، إلا أن عضوا في الهيئة "طلب عدم الكشف عن اسمه" أكد أحقيتهم في الاحتفاظ بالأجهزة الشخصية لبعض الزوار "ممن قد تنطبق عليهم علامات الريبة وفق منظورهم"، والسؤال الذي يتصدر بحق وجاهته؛ لماذا لا يطبق القانون في حق هؤلاء المخالفين؟ ومع ثقتي في وعيي الذي أنقذته من التبعية التي تلغي التحكيم بالعقل والاحتكام للمنطق الذي يحترمه الشرع والقانون أتساءل: كيف يدلس المدلسون بجعل هذه الحركات التجسسية المرتكزة على سوء الظن مقياساً بل طريقاً لتحقيق قيمة عظيمة؛ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"؟ في الوقت الذي يقطع القرآن بحرمة التجسس على المؤمنين، وينفرهم من الشك والريبة في بعضهم بعضاً؟

لاشك أن حقيقة هذه الشعيرة العظيمة أعظم من أن تطال بهذه الحركات المنفرة، التي تستباح بها عظمة حق كرامة الإنسان وحريته، وأعظم من أن نتنكر لدواخلنا المؤمنة والمعظمة لشهر عظيم انسياقاً لدواعي الشك والارتياب.

أما العلاقة بين الهيئة والشباب، فيجسد خطر اشتعالها قول أحد الشباب "إنه لايزال الشد بيننا كشباب ورجال هيئة في ظل الانتشار اللافت لهم في شوارع العاصمة بسياراتهم ذات الصدامات الضخمة وأضوائهم الخاطفة للأعين التي تكاد تنافس ساهر ببريقها" شارحاً تعرضه لموقف هجومي من أعضاء في الهيئة عندما فوجئ بأحدهم يقف في وجه سيارته ويجبره على التوقف، ليبدأ رجال الهيئة تفتيش سيارته وطلب أوراقه بطريقة حادة، واستجوابه بطريقة استفزازية "زجرني وطلب مني عدم المرور من هنا مرة أخرى، وكأنني دخلت منزله! وبدأ بتهديده بأنه سيسلمني إلى هيئة التحقيق والادعاء العام إن ظفر بي مرة أخرى".

وشاب آخر كان واقفاً أمام مطعم، فسألوه عن السبب الذي منعه من الصلاة مع الجماعة، ولما أجابهم أنه صلى في مسجد بحي آخر، هددوه ثم خيروه إما أن يعطيهم هاتفه المحمول وإلا فسيسلموه للمركز بتهمة عدم أداء الصلاة في وقتها"! ماذا بقي للإنسان من شأن نفسه إن كانت صلاته تخضع للمراقبة، بل والمساومة على تنفيذ الأوامر واقتحام الخصوصيات؟! يكمل الشاب الموقف قائلاً: "سلمتهم الجوال بعد أن طمأنوني أن لا داعي للقلق، فسحب أحدهم ذاكرة الجهاز والشريحة وأتلفها أمامي" ولم يكتف بالمضايقة عند هذا الحد، فأركبه سيارة الهيئة وذهب به إلى مركز شرطة، ليمكث هناك قرابة أربع ساعات!

وتتعدى المعاملة الخشنة مرتادي الأسواق لتصل ببعضهم إلى التطاول على رجال الأمن داخل السوق والدخول في مشاجرات عنيفة، كما رصد التحقيق أقوال أصحاب محال تجارية ومطاعم ومقاهٍ أبدوا انزعاجهم من تعامل بعض رجال الهيئة، وقالوا إن تحركاتهم وأسلوب تعاملهم يؤديان إلى إرباك نظام البيع والشراء داخل أماكن رزقهم، والأمر كذلك بالنسبة للمتسوقين الذين يتضايقون من تدخل رجال الهيئة في خصوصياتهم، ومن العبارات التي يرددونها على مسامعهم.

أما المدهش والمثير للحزن، فالفقرة التي تقول: اعتبر عضو ميداني في الهيئة أن "من حق رجل الهيئة التحفظ على هاتف من يشك في تصرفاته أو من يظن أن له علاقات غير شرعية للكشف عما يحتويه ذلك الجهاز" ما قد يوقعه في قضية ثانية أو ابتزاز واقتناء صور للفتيات في جهازه، ومن ثم يسلم لهيئة التحقيق والادعاء العام لاستكمال الإجراءات القانونية في حقه؟! وهذا أمر منافٍ للفقرة القانونية السابقة التي ذكرتها الصحيفة، ما دعى المحرر للاتصال بالهيئة لكنه لم يجد رداً، لعل عدم ردهم يوفر على كرامتنا ردا مشابها لقول أحد مسؤوليهم التاريخية المشهورة "بأنه لولا رجال الهيئة لتعبنا من اللقطاء"!

يعلل أحد أعضاء الهيئة حاجتهم لزيادة الأعداد خلال شهر رمضان مستشهداً ببعض الحوادث الغريبة التي وقفوا عليها؛ ومنها قيام بعض الشباب والفتيات بتحديد المسجد موقعاً للمقابلة والخروج منه لإبعاد الشبهة عنهم خلال صلاة التراويح، أنّى يتصيد بعض رجال الهيئة هؤلاء المذنبين أمام المساجد، آمرين الناس بالصلاة ناسين أنفسهم في خضم التجسس والتصيد؟! أم أنها ازدواجية المعايير فرضتها ازدواجية العلاقات، بالتصدي للتدخل في شأن خاص بين الإنسان وربه، وهو غاية التعدي على خصوصيةٍ علاقاتية.

صحيح أنه ليس لأحد فرض الوعي، لكن هناك تزييفا للحقيقة يعقبه أو يلازمه تزييف للوعي، وقد استفاد المماحكون والمتلاعبون بالوعي ليس فقط على مستوى تزييفه، بل وبتدوير التزييف في الخلط بين الوسائل والغايات، والشكل والمضمون، والمظاهر والمخابر، وليس أشد بطشاً من تزييف الفضيلة ادعاء القدرة على فرضها على أبواب السجون والمتابعة والتجسس وسوء الظن، ولعل أول متطلبات تصحيح الوعي تكمن في تفحص مدى فاعلية القوانين في أداء وظيفتها خاصة ما يتصل بقوانين حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، والاستصراخ بوثائق حقوق الإنسان لرفع التعدي ودفع الانتهاكات، فالمكتسبات الحقوقية ثروة إنسانية يجب الدفاع عنها، ومناهضة أي ثقافة تمسها.