الربيع العربي اجتاح المنطقة العربية كما لم يحصل سابقاً ولم يتوقعها أكثر المتفائلين في العالمين العربي والغربي، ربيعاً استمد طاقته وغذاءه من استبداد بعض الأنظمة العربية وتهميشها للحاجات الأساسية للمواطن ـ الأمن والمسكن والمأكل والملبس والتعليم ومستقبل واضح ومزدهر ـ فكان لزاماً أن تحيا وتثورالشعوب، ربيعاً ما زلنا نعيش أحداثه المستمرة، ربيعاً ما زالت تلك الأنظمة لا تستوعبه ولا تفهمه وربما لا تعترف بوجوده، وكأنه لا علاقة لها به أو أنها تعيش في عالم آخر، أو ربما في كوكب آخر. في خضم هذه الأحداث، نسأل الله السلامة والأمن لوطننا وقيادتنا وشعبنا، كما نسأل الله السلامة لكل الأبرياء في جميع أنحاء العالم.
كما أن الناس مشغولون ومنبهرون بالربيع العربي، ويتعشمون ويأملون في تحسين أوضاعهم ومستقبلهم، ما زال العالم العربي أو العالم الإسلامي يعيش تناقضات، فما بين شمولية وعدالة وتكامل الدين الإسلامي وما يتضمنه من المبادئ والمفاهيم والأحكام الشرعية الإسلامية التي تحكم ليس فقط الشعائر الدينية ولكن، وهو بنفس الأهمية والمكانة عند الله سبحانه وتعالى، تحكم أيضاً المعاملات بين الناس، بين الزوج وزوجته، بين التاجر والمشتري، بين الموظف ورب العمل، بين الموظف والدولة، هناك الجانب الآخر الذي يتمثل في التطبيق العملي للمعاملات بين الناس، فهل هناك تماثل أو تباين بين رسالة الإسلام وتعاليمه في التعاملات الدنيوية والواقع الفعلي؟ وهل هناك تركيزعلى العبادات – الشعائر من صلاة وصوم وحج – إلى درجة إهمال التعاليم السامية الأخرى، والتي تدير وتوجه الناس في سلوكهم وعملهم اليومي؟
أكثر من (2000) آية من آيات القرآن الكريم تتحدث وتفصل المعاملات الدنيوية، وكذلك ما تضمنه عدد كبير من الأحاديث النبوية، يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" وفي قصة يوسف عليه السلام وخوفه من الله: "قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي" ويقول سبحانه: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكروالبغي"، وشدد الرسول (صلى الله عليه وسلم) على أن "الدين المعاملة" وتقول عائشة (رضي الله عنها) عن أخلاق الرسول: "كان خلقه القرآن"، ويقول الرسول: "يحشر التجار (الأمناء) يوم القيامة مع الأنبياء"، والحكمة في ذلك ليس قلة التجار ولكن قلة وندرة التجار الأمناء، ولا ننسى قصة الفتاة التي رفضت طلب أمها بخلط اللبن بالماء حتى تزيد كميته ويزداد دخلهم، مما أثلج صدرالخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبهره.
عندما ننظر للواقع نرى التناقضات، فبعضهم (رجل كان أم إمرأة، كلهم على حد سواء) يدخل المسجد ويصلي لله صلاة خالصة، ويدعوالله مخلصاً بطلب الرزق والصحة والسعادة في الدنيا والآخرة، ومن ثم بعد خروجه يتغيرالحال، فالتاجر قد يغش ويغالي في بضاعته، والموظف قد يترك وظيفته ويسعى لمصالحه الشخصية، والموظف قد يستغل منصبه في طلب مبالغ مالية (رشوة) من مقاول، والزوج قد يقسوعلى زوجته وأولاده ويظلمهم ويسئ معاملتهم، والرجل، زوجاً كان أم أباً أم أخاً، قد يستولي على حقوق قريبتيه من أموال وحقوق، والرئيس قد يستغل منصبه في التحكم في موظفيه وممارسة بعض أساليب الإقصاء والعنصرية، والرئيس قد يسيء استخدام المال العام، والمعلم أو المعلمة قد يغش في وظيفته ورسالته في تربية الأجيال، والطريق لا يُعطى حقه من الحفاظ على نظافته واحترام المارة، والثري قد يترك حق المحتاجين في أمواله من زكاة أو صدقة، وغيرها وغيرها من التناقضات العجيبة والغريبة، فهل هذا ما أمر به الدين؟
في كل هذه التناقضات في المعاملات، يبدو أن من يمارسها يعيش حالة من الإنكارأو حتى حالة من تعدد الشخصية بين شخص يراقب الله في المسجد وبين شخص لا يراقب الله في وظيفته، حالة يمكن وصفها بأن مثل هؤلاء الناس يعتقدون (فعلاً) أن الإسلام في المسجد والمسجد فقط وأما خارجه فشأن آخر، وهم بذلك ينسون أو يتناسون قول الله: "ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور"، وكذلك قول رسوله: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة المثلى والأجمل والأكمل، فما فعله من حسن جوار مع جاره اليهودي، وما أشاد به من إثراء وتقدير لشخصية وأخلاق حاتم الطائي وهو من عاش في الجاهلية ولم يدرك الإسلام، واحترامه للمواثيق والعهود مع غير المسلمين، واحترامه لخصومه، وتعامله مع أهله وأولاده، وتعامله الراقي والحنون مع صحابته، وهو نفس التعامل مع بقية الصحابة، وما بكاء وحزن فاطمة رضي الله عنها عند فراقه إلا شهادة لفقدان حنان الأب والقائد، وشهادة لحسن تعامله مع فاطمة وأخواتها، وكذلك فعل جمع كثير من الصحابة والتابعين، تعاملات وأخلاق تمثل أساس الإسلام، فماذا حصل؟
في الغرب، ترى سلوكيات وعادات حميدة نحن أولى باتباعها وتطبيقها، ترى الصدق في التعامل بين الناس، ترى الإخلاص في العمل، ترى الحرص على الحفاظ على المال العام، ترى حب العمل، ترى ثقافة الإنتاج والإبداع، وهم غير مسلمين، فلماذا تسود مثل هذه السلوكيات في مجتمعاتهم وتكاد تغيب في مجتمعاتنا؟
الرسالة لكل أب ولكل أم ولكل معلم ومعلمة ولكل موظف ولكل تاجر ولكل رئيس ولكل كبير وصغير بأن يعي أن الله في كل مكان، وأن الله يراقب كل صغيرة وكبيرة، ويكافئ المحسن ويحاسب المخطئ، مراقبة أشمل وأكمل وأعدل وأسرع من أي نظام موضوع، أسرع من رقابة إنسان أو غيره، ليبقى القرار لنا، فماذا نحن فاعلون؟