الأبرز في تجربتنا الإسلامية هو قدرة الدين الإسلامي على الحياة في كل العصور، وعبر مختلف الأدوات والوسائل الحديثة التي ينتجها ذلك العصر، وكل التجارب تشير بوضوح مطلق إلى أن استخدام الآيباد مثلا في قراءة القرآن لا يمكن اعتباره تعاليا على القرآن أو محاولة لإخراجه من قداسته، وكذلك ينطبق الحال على كل وسيلة معاصرة، إلا أن كثيرا من الفقهاء يتعاملون مع بعض القضايا على أنها تمثل محميات، لا يمكن الاقتراب منها مهما كانت دواعي المصلحة الشرعية والدنيوية، لأنهم يرون في كل أمر لا يزال يدار بأدوات تقليدية نصرا واقعيا لهم، تلك هي إحدى أبرز العقد الفقهية المعاصرة، ومع اشتداد المعارك الفكرية بين مختلف التيارات التي تعد نتاجا طبيعيا لحركة المعرفة وتطور وسائل الاتصال، واتساع هوامش الحريات، يصبح الفقه التقليدي أكثر مقاومة وممانعة، وبقليل من التشنج أحيانا، وهو ما يجعله يبدو وكأنه يتجه إلى عزلة مفرطة ومواجهة مستمرة مع كل الأنماط الجديدة التي يفرضها الواقع. الممانعة والحساسية الفقهية المفرطة يفترض بها أن تكون قد صنعت لنفسها تاريخا اكتشفت من خلاله عدم جدوى تلك الممانعة، ورأينا كيف أن القضايا العامة التي وقف أمامها الفقه بفتاوى سريعة تقول بالمنع والتحريم باتت الآن جزءا أساسيا من حياة الناس، وهي لحظة غاية في الحرج والقلق على مستقبل العلاقة بين الوعي الشعبي العام وبين الحكم الفقهي، حين يجدون أن الواقع الفقهي بات مغايرا للواقع الحياتي ومعاكسا له، وحتى حين تظهر آراء فقهية حديثة ومستنيرة تواجه من قبل تيار فقهي تقليدي بكثير من اللوم والتعنيف والرفض، بينما هي في الواقع تقدم تصالحا بين واقع الناس وبين فطرتهم المتدينة أصلا.
في التعليم وفي العمل وفي الإعلام تقع الآن أكثر حالات الممانعة الفقهية، تلك التي انشغلت طويلا بقضايا سلوكية عامة، ثم غادرتها بعد أن وجدت أن الناس لم يعودوا يستمعون إليها، فلا يوجد من يتحدث الآن عن الإسبال أو الموسيقى أو السفر لبلاد الخارج، لقد أصبحت هذه القضايا تراثا فقهيا تجاوزه الناس واستوعبوه، بينما لا تحمل الذاكرة الفقهية سوى حكم واحد وثابت لتك القضايا رغم شيوعها الآن في الحياة العامة، هو التحريم المطلق.
إن لدى الفقه الإسلامي وعبر امتداد تاريخه الكثير من الشواهد التي تؤكد قوته وقدرته على التفاعل مع القيم والمعطيات الجديدة في كل مرحلة، إلا أن الصدمة الآن تقع في حيز جديد ومختلف تماما، فتحري رؤية الهلال ليست قضية فكرية خلافية في أصلها ومضمونها، فهي ليست مثل عمل المرأة ولا مثل كشف الوجه ولا مثل الإنكار في القضايا المختلف فيها، والرؤية في حد ذاتها مجرد وسيلة وليست هدفا، تماما مثلها مثل معرفة اتجاه القبلة باستخدام البوصلة والتي لا يمكن لأحد الإنكار عليها، ومنعها حماية للوسائل القديمة في معرفة الجهات اعتمادا على حركة النجوم مثلا، ولأن رؤية الهلال مناسبة وحدث يغلب عليه الطابع الديني أكثر من كونه حدثا فلكيا يصبح من الأجدى وضع سياسة تقوم على الاستفادة من المضامين الشرعية للحدث، باستخدام وسائل المشاهدة الحديثة.
كان تصريح الجمعية الفلكية بأن الهلال الذي تمت رؤيته قد لا يكون هلال العيد تصريحا مربكا للغاية، وشهد ردود فعل سلبية واسعة، جعلته العنوان الأبرز في وسائل الإعلام طيلة أيام العيد، وهو ما يؤكد الحاجة إلى تحالف فلكي شرعي، لأن الآثار التي تترتب على تلك التصريحات لا تتوقف عند حدود الداخل، ولكنها تؤثر في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. الجانب الأكثر تأثيرا هو حالة الحساسية الفقهية المفرطة التي لن تخدم الفقه أبدا في علاقته بالناس والحياة والمستقبل. إن الأجدر أمام معادلة كهذه، أن يتم تفعيل لائحة رؤية الهلال التي صدرت بأمر سامٍ مبني على قرار هيئة كبار العلماء، وقرار مجلس الشورى، والتي تضمنت تشكيل لجان يشترك فيها الفلكيون بالمراصد مع الاستعانة "بالرائين"، مما يعني الجمع بين المراصد ورؤية العين المجردة، وهو إجراء سيساعد على تحديد مصير رؤية الهلال في رمضان وفي الحج، وعلى الأقل سنحمي هذه المناسبات الكريمة من تحولها إلى معارك متجددة، وسنحتفظ بشيء من نقاء بشرتنا الفقهية ذات الحساسية العالية والمفرطة.
بالأمس قال الشيخ عبدالمحسن العبيكان رأيا مهما للغاية، فمن غير المعقول (أن تتعذر رؤية الهلال بالمراصد الفلكية، وتتم رؤيته بالعين المجردة).