من الطبيعي أن ينتج بالتوازي مع التطور العلمي الهائل فلسفة علم حديثة تحاول أن تفهم العلم الجديد وتفحص منطلقاته الأساسية. من هذه الفلسفة نتجت نظريات في المعرفة، قدمت لبقية أشكال المعارف تصوراتها عن المعرفة البشرية استنادا إلى البحث العلمي والتطورات الحديثة فيه. لدينا عدد كبير من الأسماء المؤثرة في هذا الاتجاه، سأقتصر هنا على الحديث عن ثلاثة منهم، هم على الترتيب هانز ريشنباخ(1891-1956) ورودلف كارناب(1891-1970) في هذا المقال وكارل بوبر (1902-1994) في المقال المقبل.
هانز ريشنباخ أحد أبرز علماء مدرسة برلين، وأحد أهم علماء المنطقية التجريبية التي قدمت نقدا للفلسفة التأملية، وشكلت خطا مهما في تاريخ الفلسفة في القرن العشرين. درس ريشنباخ الفيزياء من منظور "كانت" في البداية، إلا أنه سرعان ما تجاوز فلسفة "كانت" انطلاقا إلى فلسفة جديدة. الفيزياء الحديثة جاءت بتصورات لم تعد تقبل منظار الفلسفة القبلية الكانتية. يقول ريشنباخ في كتابه "النظرية النسبية والمعرفة القبلية" الذي أهداه إلى آينشتاين "لقد أدت نظرية النسبية الخاصة بالفعل إلى خلق صعوبة تقتضي من الفيلسوف ذي العقلية النقدية أن يكون على جانب كبير من سعة الأفق، وتتمثل هذه الصعوبة في أن نظرية النسبية الخاصة قد انتزعت من الزمان طابعه المتمثل في كونه عملية غير قابلة للانعكاس، وأكدت على أنه من الممكن تصور الاتجاه العكسي للتتابع الزمني للحوادث. إن هذا التفسير يتعارض مع مفاهيم سابقة متضمنة في فكرة "كانت" عن الزمان..." (الأسس الميتافيزيقية للعلم، ص153).
وفي كتابه المهم "نشأة الفلسفة العلمية" يقدم ريشنباخ رؤيته في ما ينبغي أن تكون علية المعرفة اليوم، ويبدأ أولا بنقد الفلسفة التأملية التي يعدّها مرحلة عابرة في تاريخ الفكر العلمي. هو لا ينفي الفلسفة التأملية من كونها معرفة ذات قيمة ولكنه يستبعدها من المجال العلمي ومن أن تكون منطلقات للنظريات العلمية أو أن يفكر العالم بمنهج يشبه منهجها. في الأخير المنهج العلمي هو منهج الإثبات، فكل قول لا يمكن إثباته بالمنطق ولا بالتجربة الواقعية فهو خارج المعرفة العلمية المعتبرة. كانت الفلسفة التأملية عند ريشنباخ عبارة عن مرحلة اقتضتها عدة أمور، منها ميل الإنسان للتعميم دون أن تكون لديه قدرة على الإثبات مما ألجأه للخيال.. الضعف العلمي والنهم للمعرفة جعل من الخيال يحل مكان التفسير العلمي. ويقدم ريشنباخ نقدا لرموز الفلسفة التأملية، ديكارت وسبينوزا وهيجل. وما يعنينا هنا أكثر هو حركة الشك من خلال أفكار ريشنباخ وطروحاته. لقد تحصل الشك مع فلسفة العلم عند ريشنباخ على مكانة أوسع ومساحة للتغلغل، فكل المساحات المعرفية أصبحت مفتوحة للشك، كما أن العلم ذاته أصبح يتقبل أن تكون نظرياته متأسسة على الاحتمال والنسبية. لقد قال ريشنباخ وبوضوح ومن خلال طرح فلسفي هذه المرة أن المعرفة التي تستحق الصفة العلمية هي تلك التي يمكن إثباتها منطقيا أو تجريبيا، وهذا الحصر يقوم على نظرية في المعرفة وينتج عنه تصور للفلسفة العملية، الأخلاق والسياسة والتربية والتعليم. فلم تعد للنظريات الأخلاق صفة العمومية الملزمة للجميع، ولذا كان التصور الحقيقي هو إعطاء الفرصة لأعلى مستوى من الحرية غير ضار، وعدم إلزام الناس بتصورات معينة وإجبارهم عليها. في السياسة أيضا نجد التقاءً هنا مع البراجماتية، فالسياسة يجب أن تسعى لتحقيق المنفعة والمصلحة للشعب دون تبني وجهات نظر أيديولوجية أو فلسفية. كما أن التعليم يجب أن يقوم على توسيع مدارك المتعلم وتهيئته لممارسة البحث والسؤال، ويجب تجنب تقديم المعارف على أساس أنها حقائق لا نقاش فيها.
قامت فلسفة ريشنباخ على أساس العلم الفيزيائي في عصره. نحن هنا أما تجربة شبيهة بتجربة كانت ونيوتن. هنا ريشنباخ وآينشتاين. يمكن القول إن المعرفة المعتبرة الآن تخلت عن أي ادعاء باليقين والحتم والإطلاق. بل إنه أصبح سببا للسخرية والتندر. أصبح الشك هو شرط كل معرفة بعد أن كان منهج كل معرفة. كارناب هو القطب الآخر في الفلسفة المنطقية الوضعية وأحد رموز مدرسة فيينا. اهتم كارناب مثل ريشنباخ بتأسيس لغة للعلم خالصة، تكون قادرة على تجنيب العلماء مزالق المثاليات والتأمليات. تأثر كارناب براسل وفتجنشتاين وإن كان تأثير راسل أكبر عليه كما يصرح هو بذلك على الأقل. القول العلمي عند المنطقيين الوضعيين هو القول الذي يقبل التحقق منطقيا وتجريبيا. وبرأيي أن الإسهام الأكبر لكارناب هو وضعه أسسا منطقية لنظرية الاحتمال التي يعمل العلم من خلالها في هذه الفترة. ففي كتابه الأسس الفلسفية للفيزياء يناقش كارناب المفاهيم الفيزيائية الأساسية والمناهج العلمية من أجل إنجاز عملية الفحص الكاملة لكل أثر لغير العلم في العلم من أجل تحقيق التوحيد ـ إن أمكن ـ بين الفيزياء والرياضيات، فلغة الرياضيات هي اللغة الخالصة التي يمكن من خلالها التخلص من اللغات الغير علمية. يقول كارناب: "ومن الصعب أن نتنبأ كيف ستتغير لغة الفيزياء، ولكنني على قناعة بأن هناك اتجاهين يقودان إلى تحسين كبير في لغة الرياضيات، ومن ثم يتحقق تأثير مماثل في صقل وتوضيح لغة الفيزياء، وأن هذا سوف يتم في غضون النصف الأخير من هذا القرن العشرين، وهذان الاتجاهان هما: تطبيق المنطق الحديث ونظرية المجموعة، وتبني المنهج الأكسيوماتيكي في صورته الحديثة التي تفترض لغة صورية.." (الأسس الفلسفية للفيزياء، ص294).
قطعت المنطقية الوضعية مع الأنماط المعرفية السابقة، وأرادت أن تخلّص لغة العلم من كل ما لا يمكن ضبطه والتأكد من تحققه. نعلم اليوم أن هذه الدعاوى المثالية في مطالباتها قد تم تجاوزها، ولكن ما يعنينا هنا هو ذلك النقد الذي وجهته المنطقية الوضعية لكافة أنماط المعرفة، مما أدى إلى حركة هائلة في مسار العلم.
مع المنطقية الوضعية تعرض العلم لامتحان كبير، وتمت خلخلة مفاهيمه المنطقية والتجريبية في مستوى هائل من الشك، أحدث حراكا هائلا في أوساط العلماء وفلاسفة العلم.