يتفق جميع التربويين وعلماء النفس على أن من الصعب غرس القيم في نفوس الصغار بطريقة الإلقاء والتلقين وذلك لأن القيم مفاهيم تجريدية لا يمكن للطفل تصورها فضلاً عن استيعابها والعمل بها.. ولهذا كان إقرار الأنشطة اللاصفية التي يمارس فيها الصغار نشاطات تمكنهم من فهم واستيعاب تلك القيم والعمل بها.. ويعرف التربويون أهمية تضمين تلك النشاطات السير التي تنطوي على كل قيمنا الإسلامية وأهمية استمرار ذلك التضمين حتى يمكن وبشكل فاعل غرس تلك القيم ..وهناك في الواقع دور غائب للإعلام المرئي في إعداد سيناريوهات عن السير البارزة في تاريخنا الإسلامي يتم عرضها لأنها والله أجدى وأنفع وأمتع من الكثير الغث الذي نراه في إعلامنا العربي.. وتتضمن تلك السير أمثلة لبعض الشباب المسلم الذين يتمتعون بالعديد من الصفات التي تكفل لهم مكانة رفيعة في الدنيا والآخرة. هذه الأمثلة عندما تكون ضمن الأنشطة اللاصفية في المدارس وعندما تصاغ بشكل درامي يعرض في إعلامنا المرئي سيكون لها أثر بالغ في نفوس الناشئة.. ومن يتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن الشباب هم الذين نصروه، وبهم قامت دولة الإسلام، وفتحت البلدان، وانتشر دين الله تعالى في الأرض؛ ففي الشباب طاقة وعزيمة وقوة وإقدام.. وسير الشباب من الصحابة رضي الله عنهم من أعجب السير، ودراسة أخبارهم تنهض بالهمم، وتشحذ العزائم، وتحيي في شباب الأمة الاقتفاء والتأسي بخيار هذه الأمة وأفاضلها..

ومن هؤلاء الشباب شاب من الأنصار جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة وكان عمره إحدى عشرة سنة وقيل له :«يَارَسُوْلَ اللهِ! هَذَا غُلاَمٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَقَدْ قَرَأَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْكَ سَبْعَ عَشْرَةَ سُوْرَةً، قال: فَقَرَأْتُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ»، ذلك هو زيد بن ثابت الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه.. وتوسم النبي صلى الله عليه وسلم فيه النجابة وحدة العقل، وقوة الذاكرة، واتساع الذكاء، فكلفه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم لغة اليهود وَقَالَ: "يَا زَيْدُ! تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُوْدٍ، فَإِنِّي وَالله مَا آمَنُهُمْ عَلَى كِتَابِي". فشرع زيد يتعلم لغة اليهود حتى أتقنها تحدثا وقراءة وكتابة، فكان له ذلك في مدة وجيزة لم تتعد الخمسة عشر يوما فقط. (كما جاء في الحديث الصحيح). وهذا يدل على ذكائه، واستغلاله لعقله فيما ينفعه من العلم وخدمة الإسلام، وفي شباب الأمة اليوم من يمتلكون ذكاء كذكاء زيد لكن عقولهم معطلة، لم تجد من يعملها ويوجهها وجهتها الصحيحة.

وأول معركة شارك فيها زيد هي معركة الخندق وعمره أربع عشرة سنة فقط. وترقى زيد في العلم والعمل، واشتهر بضبط القرآن مع الفقه، حتى كان من مشاهير قراء الصحابة وفقهائهم وعمره أقل من العشرين، ولأجل ضبطه وكتابته كان زيد من كتاب الوحي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واشتهر في المدينة بكاتب الوحي.

وأما فقهه فقد ضبط علم الفرائض وقسمة المواريث وهي أعسر أبواب الفقه حتى قال النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: «أَفْرَضُ أُمَّتِي: زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ»، وفي ضبطه للقرآن والفقه يقول التابعي الجليل عامر الشَّعْبِي رحمه الله تعالى: «غَلَبَ زَيْدٌ النَّاسَ عَلَى اثْنَتَيْنِ: الفَرَائِضِ، وَالقُرْآنِ». وَعَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ قَالَ: «مَا كَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ يُقَدِّمَانِ عَلَى زَيْدٍ أَحَداً فِي الفَرَائِضِ وَالفَتْوَى وَالقِرَاءةِ وَالقَضَاءِ». وبلغ بزيد فقهه مبلغ الفتوى، فكان سادس ستة يفتون من الصحابة كلهم كبار إلا زيدا فكان شابا في العشرين من عمره وصار فقهه يحفظ ويطلب.

كل هذا العلم والفقه حازه زيد وعمره لما مات النبي صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز ثنتين وعشرين سنة.

وفي خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه كُلف زيد بأكبر مهمة يكلف بها رجل من هذه الأمة، وهي مهمة جمع القرآن بعد أن كثر القتل في قراء الصحابة أثناء حروب الردة، وذلك أن عمر أشار على أبي بكر بإسناد هذه المهمة الكبيرة لزيد لحفظه وإتقانه وذكائه، وكان زيد في العشرينات من عمره ويعلم ضخامة ما حمل؛ فمضى يجمع القرآن من الرقاع وصدور الرجال حتى تم له ذلك على أحسن حال، فحُفظت الصحف عند أبي بكر ثم عمر ثم حفصة، ولما أراد عثمان في خلافته أن يجمع الناس على مصحف واحد؛ ليقطع النزاع والاختلاف في القراءة كان زيد رضي الله عنه عضوا فاعلا في اللجنة التي انتدبها عثمان لذلك، حتى كتبوا المصحف العثماني الذي توارثته الأمة منذ ذلك الحين إلى اليوم، ويقرأ به المسلمون القرآن في مشارق الأرض ومغاربها، فكم لزيد رضي الله عنه من الأجور العظيمة الدائمة على هذا العمل الجليل؟

وبقي زيد رضي الله عنه إلى الخلافة الأموية، ولم تتلطخ يداه بدم مسلم، ولم يشارك في فتنة، وإنما يقرئ الناس القرآن، ويعلمهم العلم، ويفقههم في الدين إلى أن توفاه الله عز وجل، ومن أشهر طلابه ابن عباس الذي قال فيه: «لَقَدْ عَلِمَ الْمُحَفِّظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ».

ما أجمل أن يستحضر أبناء المسلمين وبناتهم سير شباب الصحابة وفتياتهم، وأن تقرأ عليهم أخبارهم، وأن يدرسوا اهتماماتهم. ذلك الجيل من الشباب الذي تربى على عين النبوة، وعاش فترة الوحي، وحقق للإسلام في سنوات قليلة من التقدم والازدهار وفتح البلدان ما عجزت عنه أقوى الدول وأشهر الفاتحين والمحاربين في القديم والحديث..

كان زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي حفظ في صباه القرآن، وطلب العلم، وفقه الفقه، كان لما كبر يدرب الشباب على العلم والفقه والفتيا؛ ليحملوا العلم من بعده ويبلغوه الناس، ويفتوهم في دينهم.

حق الناشئة علينا العناية والرعاية والتوجيه لما ينفعهم وتحميلهم من المسؤولية ما يليق بهم؛ فإنهم إن لم يشتغلوا بما ينفعهم شغلوا أنفسهم بما يضرهم، ولحق ضررهم أسرهم ومدارسهم ومجتمعهم والأمة كلها.. قصورنا في هذا المجال عدم معرفة المبرزين من ناشئتنا ثم عدم الثقة بهم بتحميلهم المسؤولية ثم قصور كبير في عرض سير الشباب المبرزين في تاريخنا الإسلامي لإكسابهم القيم التي تمتع بها أولئك المبرزون. إنها مسؤولية كبيرة أمام ناشئتنا يجب علينا تحملها بكل اقتدار وبالمستوى الذي يضمن غرس قيمنا ومثلنا ومبادئنا وأخلاقنا الإسلامية في نفوسهم.