أخيرا تحدى رئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس التهديدين: الأميركي والإسرائيلي، باستخدام حق الفيتو تجاه مشروع القرارالذي يعترف بالدولة الفلسطينية كعضو كامل في الأمم المتحدة، وألقى خطابه في الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وفيه قدم رسميا طلب الاعتراف للأمين العام للأمم المتحدة، السيد بانكي مون، لعرضه على مجلس الأمن الدولي واتخاذ القراراللازم بشأن ذلك.
وينتظر أن يعقد اجتماع مجلس الأمن في هذا الأسبوع، ويتوقع استخدام الإدارة الأميركية الفيتو لمنع القرارالأممي من الصدور. كما يتوقع تحفظ بريطانيا، ودول أوروبية أخرى على القرار.
في هذا الحديث، وأحاديث أخرى قادمة نتابع مسيرة النضال الفلسطيني، من أجل إقامة دولة مستقلة على الأراضي التي احتلها الصهاينة، في حرب يونيو عام 1967، تحديدا بالضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة. لقد مثلث حرب أكتوبر نقطة تحول حاسمة، في استراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية، من اعتماد الكفاح المسلح وسيلة وحيدة لتحرير الأرض، إلى تبني الحلول السياسية لتحقيق هذا الهدف. ومن التحرير الكامل لفلسطين التاريخية، من النهر إلى البحر، إلى القبول بدولة فلسطينية بالضفة والقطاع.
في هذه القراءة نميز بين هدف تحرير فلسطين، كمنهج نضالي وبين وجود أطر تمثيلية للكيان الفلسطيني، حتى وإن تحقق ذلك مع وجود الاحتلال جاثما على الأرض. ونجزم في هذا السياق أن إنجاز الاستقلال الكامل لفلسطين، ليس خارج معادلة التلازم بين هدف التحرير واستراتيجية بلوغه.
إن أي محاولة للفصل في هذه المعادلة، هي تكريس للتكتيكات والممارسات التي ثبت عقمها، منذ إعلان وثيقة الاستقلال بالجزائر، في نوفمبر عام 1988م. التي صدرت عن المجلس الوطني الفلسطيني، في دورته الخامسة عشرة. ذلك لا يعني، على أية حال، التقليل من أهمية وجود مؤسسات تمثيلية للشعب الفلسطيني، تضطلع بمهمة التحرير. لكن هدف التحرير شيء مختلف تماما عن وجود مؤسسات تمثيلية لا تضع التحرير في مقدمة أهدافها، وتكون خاضعة لأجندات وسياسات لا تتوافق مع الحق في الاستقلال وتقرير المصير.
ليس من شك في أن تعقيدات القضية الفلسطينية، وتشابكها وارتباطاتها الإقليمية والدولية والطابع الاستيطاني لاحتلالها، جعل منها قضية مستعصية، وجامعة للعرب. وقد رتب تلازم مشروع النهضة العربية بقضية تحرير فلسطين، عليهما مهمات مركبة. لقد كان التدخل فاضحاً، للحيلولة دون تحقيق وحدة المشرق العربي، بفرض اتفاقية سايكس- بيكو كأمر واقع. وكان كذلك في مسألة اغتصاب فلسطين، بفرض وعد بلفور كأمر واقع أيضا. وكان ذلك أحد أوجه التشابك بين مشروعي النهضة، وتحرير فلسطين. وقد تكشف لاحقا أن العجز عن تحرير فلسطين، هو ذاته العجز عن تحقيق التنمية والتقدم والنهضة.
نفخت النكبة روح التمرد على الواقع الفاسد، وتأكد أن خلل التوازن في الصراع مع الصهاينة ليس عسكريا فقط. وأن الحل يكمن في كنس الترسبات الراكدة في الواقع العربي. ومنذ ذلك الحين، أصبح النظام العربي يستمد مشروعيته من ارتباطه بالقضية الفلسطينية. لكن المقاومة المعاصرة، لم تنطلق بزخم قوي، إلا مع حركة فتح، ولم تأخذ حيزها الحقيقي إلا بعد نكسة 1967.
في بداية الستينات عملت "إسرائيل" على تحويل مياه نهر الأردن لصحراء النقب، وتداعى القادة العرب، بدعوة من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، لقمة عقدت بالقاهرة عام 1964م، لاتخاذ الخطوات الضرورية لمنع تنفيذ هذا المشروع. في هذا المؤتمر أقر تشكيل كيان سياسي للفلسطينيين حيثما وجدوا. وخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من رحم ذلك المؤتمر. ذلك يعني بداهة، أن تأسيس الكيان السياسي الفلسطيني لم يكن قرارا ذاتيا مستقلا، بل جرى تبنيه ليخدم ستراتيجيات عربية في مرحلة تاريخية محددة.
بالدورة الرابعة للمجلس الوطني التي عقدت بالقاهرة في يوليو 1968، تسلمت المقاومة الفلسطينية قيادة منظمة التحرير، وأصبح ياسر عرفات، رئيسا للجنة التنفيذية للمنظمة. وخلالها، هيمنت حركات المقاومة على قيادة منظمة التحرير. ونقلت معها توجهاتها الأيديولوجية والسياسية المختلفة والمتباعدة، التي مثلت التيارات السياسية السائدة في الوطن العربي. وكان عدم التجانس في المواقف بين حركات المقاومة هو وجه آخر للخلافات العربية- العربية.
لقد أفرز زلزال حزيران 1967 حقائق جديدة في علاقة الأنظمة العربية بالمقاومة. فالمشروع الصهيوني، لم يعد مجرد خطر جاثم على الواقع العربي، فبتوسع كيانه وتمدده واستيلائه على الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وسيناء وهضبة الجولان أصبح يحتل أراضيَ عربية، من خارج فلسطين.
هذا يعني أن شكل الصراع العربي- الصهيوني قد تغير جذريا، في دول المواجهة، من موقف تضامني مع الأشقاء، إلى اندماج بالصراع، من خلال وجود أراضٍ محتلة لهذه الدول بقبضة الكيان الغاصب. لقد تغيرت الأجندات العربية، من الهدف الاستراتيجي البعيد، تحرير فلسطين، والذي أثبتت حرب حزيران بالدليل عدم القدرة على تحقيقه، إلى إزالة آثار العدوان.
وما دام الهدف الرئيس، قد اختزل من التحرير الشامل، إلى التعامل مع نتائج النكسة، بما يتسق مع قراري مجلس الأمن الدولي 242، 338 التي تعاملت مع الصراع باعتباره نزاعا على الحدود وليس قضية شعب حرم من حق تقرير مصيره، فإن معالجة نتائج النكسة لا تستلزم بالضرورة إسنادا استراتيجيا للمقاومة. ومن وجهة نظر دول المواجهة، كما عبر عن ذلك مؤتمر القمة بالخرطوم، يمكن أن تتم معالجة نتائج حزيران بجهد دبلوماسي، وتنسيق مع الأمم المتحدة. ومع تبني القادة العرب لسياستهم الجديدة، أصبح حضور الفعل المقاوم رديفا تكتيكيا، للموقف الرسمي العربي، الهادف ليس إلى تحرير فلسطين، ولكن لإزالة آثار العدوان.
كيف تطور الموقفان العربي والفلسطيني، من موضوع الدولة؟ وما هي المتغيرات السياسية التي أسهمت في الانتقال الاستراتيجي بسياسات الدول العربية باتجاه القبول بالتسوية؟ أسئلة ستكون محور حديثنا القادم بإذن الله تعالى.