من ساقه قدره لقضاء الإجازة الصيفية وصوم رمضان في مدينة جدة، وممن بقي من أهلها فيها، ولم يغادرها لقضاء الصيف بعيدا عن أجوائها الأكثر إزعاجا في المواسم والإجازات، فلا بد وأنه تعود المشي إلى المسجد لصلاة العشاء والتراويح، أو أنه تعلم الصبر على الأذى، أو أصيب بداء السكري وارتفاع الضغط. وفي العشر الأخيرة من رمضان، بقي المرء حبيس داره لا يغادرها إلا لضرورة. ولا تظن أننا نعايش الأزمة فقط في المواسم والإجازات، فخروج الطلاب والموظفين في الصباح الباكر وعودتهم عند الظهيرة؛ ليس سوى رحلة عناء نكابدها كل يوم لسنين.

في مدينة جدة، لن تجد للنقل العام أثرا إلا في تلك الحافلات المقززة، فأين هو النقل العام المريح الذي وعدونا به؟ وفي جدة مئات الآلاف من طلاب المدارس، يخرج الكثير منهم يوميا ويعود في سيارة خاصة، تقله في الغالب وحده، والنقل المدرسي الذي صمت الآذان أخباره في ليل لم يبزغ فجره.

ومنذ أكثر من عامين، طرح المهندس عادل فقيه، أمين محافظة جدة وقتئذ، في لقاء مفتوح بقاعة ليلتي الخطة الاستراتيجية الشاملة لتطوير المدينة، ونقلها إلى ما هي أهل له في سنوات قليلة. حضر اللقاء جمع من أهالي جدة وصحفيون، وشرفه الأمير خالد الفيصل، أمير المنطقة.

تناولت الاستراتيجية ـ فيما طرحت ـ حلولا لأزمة الازدحام على طرقات المدينة، ترتكز على توسعة عامة للشرايين الضيقة في الشبكة، وبناء نظم النقل العام الحديثة بأنواعها المختلفة. وطرح الأمين مشاريع أخرى، حدائق عامة ومتنزهات، وملاعب رياضية ومكتبات.. الخ، وقدم صورة زاهية لمدينة عصرية، في مستقبل قريب، وترك انطباعا بقرب الفرج.

وخرجت آليات التنفيذ في سرعة، وبدأ العمل. مشاريع من الوزن الثقيل التي غيرت خارطة المدينة. أنفاق وجسور وهدم وبناء، وعمل يسير ببطء شديد، لكنه، ما لا يدرك جله لا يترك "أقله". ومن الغريب أن ركزت الأمانة على إنشاء وتوسعة الطرق، وغيبت عن المشهد وأهملت برامج النقل العام المنتظرة، وكثيرا مما جاء في الخطة.

لقد تبنت الأمانة قِطَعا من الحلول الإنشائية، التي لا يمكن أن تصمد وحدها لفك الاختناقات المرورية، وأهملت الجوانب الأخرى، خاصة الإدارية من المعادلة. فبعد سنين، ستزداد مدينة جدة اتساعا، ويرتفع عدد سكانها، ولا أدل على ذلك من الحركة العمرانية الحادة التي نشهدها، ومعدلات النمو التي تعلنها الجهات المختصة.

هل سنلجأ حينها إلى توسعة الشوارع والطرقات مرة أخرى وثالثة، ونبني الجسور ونحفر الأنفاق، وإلى متى؟ ليس بوسعنا الاستمرار، فلكل شيء حد ونهاية، ناهيك عن التكاليف البيئية والاجتماعية والاقتصادية التي تترتب على التوسع في شبكة الطرق.

إن الحل الشامل هو في تخطيط المدن على أسس معرفية، تأخذ في الاعتبار كل الثوابت الاقتصادية والبيئية والهندسية. هذا الحل لا يعمل على أزمات الحاضر والمستقبل القريب، لكنه ضروري فيما وراء ذلك، ولكل مدينة، تسعى إلى الأمام، مخططات إستراتيجية، ترسم مستقبلها بما يحقق راحة المواطن وحماية المكان. ولا تكفي لذلك الخطط الاستراتيجية، كما جاءت في لقاء الأمين السابق، ما لم ترافقها خطط تنفيذية محكمة، وتُرصد لها ميزانيات كافية، وتخالطها الجدية في العزم على التنفيذ.

ولابد أن يكون التصدي لأزمات المرور مضمونا في هذه الخطط الاستراتيجية الشاملة لكل مرافق المدينة وبنيتها التحتية، والتي لا تخلو أبدا، من النقل العام.

تتعدد الأساليب ومناهج التصدي لأزمات النقل واختناقات المرور بما يتناسب مع بيئة المكان والخلفية الاجتماعية. فمن الحلول ما يعتمد على قاعدة العرض والطلب المعروفة، لكن بهدف السيطرة على كثافة المرور، لا على سعر السلعة. وهذا ما تتبناه الأمانة الآن في إدارة الأزمة، مع الإخلال بالطرف الآخر من معادلة السيطرة على حركة المرور. وهنا يتصدر النقل العام كأداة أثبتت قدرتها على حل المعادلة بضبط الطلب.

والنقل العام عنصر هام يتكامل مع الإدارة السليمة لحركة السير، التي توظف "النظم الذكية" المزودة بآليات متطورة، لمراقبة حركة المرور وحساب كثافة العربات، وتوجيه السير، وبما يخدم اللحظة. وفي الإدارة السليمة، استخدام الإشارات الضوئية المترابطة زمنياً، أو المزودة بأدوات استشعار تمكنها من توزيع زمن الإضاءة بما يتناسب مع كثافة تدفق السير، وتعتمد على اللوحات الضوئية المتغيرة، لتسيير الحركة وضبطها. ويتم التحكم في هذه النظم عن بعد أو ذاتيا، ويمكن ربطها ببرنامج النقل العام، لتعطي الأخير أفضلية الطريق، وتجعله أكثر راحة وجاذبية.

وهناك عناصر أخرى، وتفرعات، لا مكان لذكرها، لكنها دائما تتضافر، وتصبح الحلول مزيجا من مجموعها أو من بعضها. وتجزئتها، والأخذ بطرف منها، كما تفعله الأمانة، من شأنه إشاعة الفوضى، وهدر المال العام، وينتهي بمنتج عاجز.

فالنقل العام إذن هو العمود الفقري في كل الحلول، وما بقي من الحلول إنما تتكامل معه، وتدور حوله. ولن تجد اليوم مدينة بحجم جدة وثرائها، وليس فيها شبكة عصرية للنقل العام. قرر عمدة مدينة مكسيكو العاصمة، في عام 2002، إنشاء خط للنقل العام يخترق قلب المدينة ويخفف العبء على شرايينها الرئيسة. وبعد ثلاث سنوات، كان الخط وحده يساهم في نقل 315000 راكب يوميا.