ليس من مهام أي دولة في العالم أن تجعل الناس على درجة عالية من الوعي، ولا من وظيفتها أن تجتهد في إقناعهم بأمر ما، وخاصة في قضايا الحقوق والواجبات، التي لا تخضع لمنطق الأقلية والأكثرية. بل تخضع لقيم المواطنة والتنوع التي تعد أبرز العوامل في كل دولة حديثة.

التجربة الرائدة للمؤسس الملك عبدالعزيز ـ طيب الله ثراه ـ تكمن قوتها في إيمانه المبكر بأنه يؤسس لدولة حديثة، وليس لجماعة أو عائلة أو قبيلة، ولذلك تجاوز في كثير من مواقفه الوعي البدائي الذي كان سائدا آنذاك، وفتح نوافذ لبدايات النهضة وللتواصل مع العالم، ولتمكين بلاده من التأثير في محيطها، والسعي للارتقاء بالداخل، وإدخال مختلف الوسائل والتنظيمات الحديثة إلى البلاد.

إذن فثمة ما يمكن تسميته منطق وقيم الدولة الحديثة وهي تتفاوت تبعا للمعطيات الثقافية والاجتماعية في كل مجتمع، إلا أنها في النهاية تمثل واقعا لا يمكن تجاوزه أو الالتفاف عليه، وفي تجارب كثير من الكيانات السياسية نلاحظ أن خرقا فعليا حدث لقيم الدولة أدى إلى تراجع تلك الكيانات وضعفها، بعد أن أدخلها أداؤها غير المدني في مواجهات مع العالم من حولها، ومع الداخل. وإذا كان التنوع الثقافي والاجتماعي وحتى المذهبي من أبرز السمات المؤثرة في واقع الدولة الحديثة، فإن مراعاة واستيعاب ذلك التنوع يعدان القيمة الأعلى والأكثر ضمانة للاستقرار والرخاء.

في المجتمعات المحافظة، تتشكل شرائح تقليدية تمثل جدار ممانعة مستمر، يتحول الواقع لديه إلى مواجهة مستمرة، هذه الشريحة تظهر في كل تجربة حضارية، وليست خاصة بمجتمع دون غيره، بل هي جزء من الحراك الثقافي والاجتماعي في كل الكيانات الحديثة.

وبالنظر إلى كثير من مواقفها نجدها تنطلق من قيم وأفكار ما قبل الدولة، إذ تتعامل مع الدولة على أنها ذات مسؤولية أخلاقية على مستوى المجتمع وعلى مستوى الأفراد، بينما منطق الدولة الحديثة يؤكد أن مسؤوليتها تكمن في النظام والقانون والحقوق وحماية حق الناس في الاختيار، وبما يضمن عدم المساس بحريات الآخرين، وليس بأفكارهم، وعي معادلة لا تتعارض على الإطلاق مع المقومات الثقافية لكل مجتمع.

وفي المملكة مثلا تحضر القيم الدينية كأهم العوامل في مختلف القرارات والتوجهات والسياسات، إلا أن الدولة تدرك أن تلك القيم ـ إذا ما تمت قراءتها وفق رؤية غير تقليدية ـ تعطي مساحة واسعة لحماية الحقوق ودعم الحريات.

وفي القرارات الملكية الأخيرة الخاصة بتمكين المرأة السعودية ومشاركتها في صنع القرار دليل على واقع يشهد تطورا في شخصية الدولة، انطلاقا من ملاحظتها واستيعابها للتطور في شخصية الفرد ووعيه، إذ تحولت مثل هذه الإجراءات من كونها مطالبات نخبوية لتصبح استحقاقا شعبيا عاما.

الدولة الحديثة هي التي تمثل ضغطا على ذاتها باتجاه التغيير والتحديث، وتدرك أن كل مرحلة زمنية تمر بها، تفضي إلى مرحلة أخرى تحفها استحقاقات جديدة، والأدوات التي تدير بها الدولة شؤونها في مرحلة ما ليس شرطا أن تظل صالحة لمختلف المراحل.

ما نشهده الآن من مشروعات تطويرية في مختلف القطاعات والوزارات لا يعني أن تلك الجهات لم تكن قائمة بدورها فيما مضى، لكن دورها ووظيفتها هما اللذان تغيرا بفعل تغير المراحل، مما يعني الحاجة إلى تجديد وتطوير تلك المؤسسات لتكون قادرة على الوفاء بالاستحقاقات الجديدة، فالقضاء السعودي مثلا، يشهد الآن واقعا جديدا يحتم عليه أن يعيد صياغة مؤسساته وأدواته، والدولة الحديثة الواعية هي التي تتحرك دائما باتجاه تحفيز مؤسساتها نحو التجديد الذي يمكنها من التعامل مع الواقع المستجد. ولذلك فالضاغط الوحيد على الدولة من أجل التحديث والإصلاح المستمر هو الدولة نفسها.

تحتج تيارات الممانعة أحيانا بالمجتمع، وتتعامل مع كثير من الأفكار الجديدة تحت مظلة: كيف يتم فرضها على مجتمع يرفضها؟ بينما الواقع يؤكد أن الخيارات لا تعني فرضا على الإطلاق، بل هي تلبية للتنوع، أما حين تصبح تلك الأفكار حقا مشروعا، فهي لا تخضع لمنطق الأكثرية ولا الأقلية، ولا الاستفتاءات، فالدولة مثلا لم تستفت الناس في إقامة البنوك والمصارف الحديثة ولا في دخول مختلف التقنيات الحديثة ولا في غيرها من الفعاليات والإجراءات التي يختلف الناس في قبولها وتختلف مواقفهم منها.

إن الاستقرار الحقيقي والمستقبلي للدولة الحديثة مرتبط بقدرتها على استيعاب ذاتها وعلى استيعاب مختلف التحولات من حولها، انطلاقا من شخصية الدولة التي تقوم على التنوع والتي يصبح من واجباتها حماية ذلك التنوع والدفاع عنه.