منذ الأول من أغسطس عام 2005م، اليوم الذي بايع فيه السعوديون الملك عبدالله بن عبد العزيز ملكا للمملكة العربية السعودية، وصولا إلى يومنا هذا يمكن رصد كل خطابات الملك عبدالله لنجد أنها تنطلق من عامل وعنصر واحد، وهو إيمانه بالناس، وواقعهم وتحولاتهم وثقافتهم ووطنيتهم، بل وتنوعهم.
الزعماء الأبرز والأكثر تأثيرا في التاريخ هم أولئك الذين يدركون أن الرهان الحقيقي يكون على الشارع وتحولاته وإرادته، لأن القائد الواعي هو الذي يستطيع أن يوازن بين واقع الدولة بمختلف شرائحها، والتأثيرات والتطورات الإنسانية المحيطة به إلى الدرجة التي يصبح فيها مقاربا لتطلعات الشارع والجمهور وقريبا منها، مع الإيمان، بأنه وفي كل المجتمعات حفنة من القوى والتوجهات الممانعة تسعى لخلق وابتكار مواجهة بين القيادة والشارع، وبالتالي تجتهد في مختلف التأويلات لتحمل القيادات وظائف لا تتفق أصلا مع قيم وأفكار وواقع الكيانات المدنية الحديثة، ليكتشف الجميع في النهاية أن تلك القوى تحافظ على وجودها هي وعلى سلطتها التي كانت قائمة حين كان التقليد سمتا ثقافيا واجتماعيا لدى كل الشرائح الاجتماعية، إلا أنه وفي سياق التحولات الكبرى التي تمر بها المجتمعات يقف القائد الواعي موقفا محايدا ليترك التحولات الاجتماعية هي التي تحدد خرائط الحركة الآنية والمستقبلية في المجتمع. وتنحاز القيادة للناس ولطموحهم، وأكثر ما تخشاه الممانعة التقليدية هو انتباه المجتمع لحقوقه، لأن ذلك سيبرز على السطح أصواتا وأفكارا جديدة قد لا تنطلق من ذات الرؤية والهدف اللذين ينطلق منهما الممانعون ويصبح لهم من الحضور الثقافي والاجتماعي ما يربك الممانعة ويجعلها تستشعر أهمية المواجهة، فتسعى بالتالي للخروج من نقد الشارع بعد أن بات لا يستمع لها إلى نقد من يحققون طموح الشارع وتطلعاته.
المستوى الثاني من الممانعة التي قد تقف بين القائد وشعبه، هو الممانعة البيروقراطية، التي تؤدي إلى إرباك علاقة الناس بمقدراتهم وحقوقهم، وبينما يرتفع وعي الناس بأهمية الخدمات المقدمة لهم، وبجودتها تأتي الخدمات التي تدار وفق منطق بيروقراطي معقد أقل من طموح الشارع، بل تتحول مع الزمن لتصبح عبئا على طموحه، ليتحرك هنا القائد الذي يصغي لوقع الحياة في الشارع، ويؤمن بأن الوضع السابق لتلك الجهات لا يمكن أن يكون قادرا بصيغه القديمة على تحقيق متطلبات الوعي الجديد لدى الناس، فيتجه وبكل حزم وصرامة إلى إقرار تغييرات جذرية في مختلف الوزارات وإلى إقرار مشروعات تطويرية في وزارات أخرى، وما نشهده في التعليم والإعلام والعمل والعدل والقضاء والصحة والخدمات ومكافحة الفساد لم يأت استجابة من القيادة لاقتراحات وزراء أو مسؤولين ولكنه انطلق من نتيجة لإصغاء القيادة للشارع وانتصارها لواقعه وتحولاته ووعيه المتجدد.
لدى كل قائد نخبة من المسؤولين الذين يوكل إليهم إدارة الحياة العامة للناس، ويحظى أولئك المسؤولون نتيجة لمهامهم هذه بكثير من الامتيازات التي يفترض بها أن تساعدهم على القيام بمسؤولياتهم، ويمكن تقسيم تلك المسؤولية إلى مستويين: المستوى التنموي والخدمي والمستوى الفكري والمعرفي. ولا فرق في الإخلال هنا بين مسؤول في جهة ذات مهام فقهية وآخر في جهة ذات طابع خدمي، فالمسؤول الفقهي الذي يفتي بحرمة الابتعاث مثلا، لا يقل سلبية عن مسؤول خدمي يتأخر في تنفيذ مشروع حيوي، لأن في كلتا الحالتين إرباكا في استيعاب المسؤولية.
يشعر الآن كل المواطنين بأن الملك جزء منهم وليس جزءا من المسؤولين الموكلين بتصريف شؤون حياتهم، وفي الوقت الذي بات فيه كثير من زعماء العالم يمثلون عبئا على شعوبهم، نظرا لانحيازهم للنخبة المسؤولة من حولهم، الذي حول تلك النخبة لتصبح كل شيء في الدولة، ويصبح المواطنون مجرد شريحة ثانوية، تأخذ المعادلة في المملكة جانبا مختلفا للغاية، فالملك عبدالله ليس نصيرا للمسؤولين بقدر ما هو صديق ونصير للمواطنين، وصوت المواطن وتحولاته ووعيه ومطالبه مقدمة لديه على تبريرات المسؤول ومخاوفه وأخطائه.
عشرات الخطابات الملكية منذ أن تولى الملك عبد الله مقاليد الحكم، تتمحور في كثير من جوانبها حول الناس على أنهم هم العامل الأبرز في معادلات التنمية، وحتى في الخطابات ذات البعد السياسي الخارجي تحظى تطلعات الناس وهواجسهم بحضور حقيقي ومؤثر، والقرارات الملكية الأخيرة التي انتصرت لواقع المرأة ومنحتها حقوق المشاركة السياسية إنما تمثل انحيازا حقيقيا من الملك للناس واستيعابا لتحولاتهم.
هذا الواقع يكشف حجم القوة التي يتمتع بها خادم الحرمين وأنها قوة قادمة من الناس، ومن محبتهم وقربهم وإيمانهم بأنهم يعيشون مع قائد يجعلهم ثروته الحقيقية، ورهانه المستقبلي، ولذلك فالملك ثري جدا، بهؤلاء السعوديين الذين لا يجدون لديه مجرد قائد يلبي طموحاتهم، بل ويسبق ذلك ليستوعب تحولاتهم وتنوعهم ومطالبهم المتجددة.