جاء الحافظ الفقيه إسحاق بن بهلول الأنباري إلى الإمام أحمد وقد حمل معه كتاباً ألفه سماه: (كتاب الاختلاف)، فقال له الإمام أحمد: سمّه كتاب (السعة)، وهذا تدشين مبكر من الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ ونظرة عبقرية إلى أن الخلاف أو الاختلاف ليس أمراً مشكلاً وسيئا، بل هو أمر إيجابي، يتوافق مع شمول الشريعة ويسرها وسعتها، فقد نقل الإمام أحمد مفهوم (الاختلاف) الذي هو في ظاهره مفهوم سيئ، ليجعل منه نفسه مفهوما آخر هو مفهوم إيجابي (السعة)، إذ أن تنوع الآراء يدل على توسيع الشارع للناس في اختياراتهم، وأن الإصر والإغلال هما في حصرهم على آراء واحدة لا يحيدون عنها ولا يفكرون.

ومن الطبيعي أن يتحمس الإنسان لفكرته، ويحشد لها الأدلة التي تؤيدها، ويناضل من أجل الإقناع بها، ولقد كان جزءا من نحاج مشروعات المجددين في الأفكار احترام الفكرة، وتأصيلها، والمناظرة حولها، ومحاولة إقناع الناس بها، والجدة في حملها، ولكن كل هذا لا يعني أن الفكرة التي يحملها الإنسان هي الحق المحض الذي يجب على الناس الانصياع لها ومتابعتها، وخاصة في المسائل القابلة للاختلاف وتعدد وجهات النظر. وقد كان الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ يقول: (قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب).

وإذا نظرنا إلى المسائل التي يدور حولها النقاش في الغالب فإنها تنحصر في:

مسائل هي محل قطع والخلاف فيها مهدر، وهي الموارد التي اتفق المسلمون عليها، وجاءت النصوص الشرعية قاطعة وحاسمة لموارد الخلاف حولها، والتي يعبر عنها الفقهاء بالقطعيات، ورتبة أعلى منها وهي ما يعلم من الدين بالضرورة، وهذه لا ينبغي أن تكون مجالا للخلاف أو الاختلاف، لأنها هي الدين الجامع، والتي يعلم حتى غير المسلمين بأن الإسلام قد جاء بها لوضوحها وتقريرها في الأذهان للعامة والخاصة.

ومسائل هي من قبيل اختلاف الفقهاء في الأحوال الشخصية والتعبدات الخاصة، والمعاملات بين الأفراد والآراء والمذاهب، وهذه في الغالب فإن الناس تتبع العلماء الذين يحيطون بهم، ويسيرون على مذهبهم الفقهي العام، وقليل من الناس من يذهب بعيداً ليستفتي العلماء الأبعدين الذين لا يعرفهم إلا في نطاق محدود وعبر قنوات الاتصال الحديثة.

وثالثها المسائل العامة التي يكون الشأن فيها شأنا عاما، ولها تعلق بقضايا التنمية والحقوق والمسائل السياسية، وهذه في الغالب تحتاج إلى حسم من الولاية السياسية التي ترجح أحد طرفي الخلاف حولها فتلزم به، وفي مثل هذه الحال فإن المهدر في هذا هو فرض أصحاب الرأي المخالف رأيهم على العموم، أو محاولة إعاقة القرار، أما فيما يتعلق باحتفاظهم بآرائهم وعدم إلزامهم بالسائد فهو حق مكفول لهم، ولا يجوز إلزامهم بترك قناعاتهم، وعليهم بعد ذلك إدراك أن القضية التي لم تحسم بنصوص قطعية الدلالة والثبوت فهي باقية محل خلاف واجتهاد، لا يستطيع أحد أن يجزم أن قوله هو مراد الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مهما كانت قناعته بقوة أدلته وقربها من قواعد الاستدلال وأصول الشريعة.

إن تنوع الآراء في أي مجتمع من المجتمعات ـ خاصة فيما يتعلق بشؤونهم العامة والاجتماعية ـ ظاهرة صحية، فكثرة الآراء تنضج الأفكار، وتصنع الحلول، وتجعل الناس ينظرون إلى الحدث من أكثر من زاوية، شريطة أن يتم هذا الخلاف حول مجمل المسائل المطروحة بأخلاقياته وآدابه التي جاءت الشريعة لترسيخها، وسار عليها أئمة الإسلام من الإعذار للمخالف، وحمله على أحسن المحامل، ومحاولة تفهم قوله ومنطلقاته، والابتعاد عن تسفيه الآراء، أو تخوين قائليها، أو الاستخفاف بما يطرحون مهما رأى الإنسان ضعف الفكرة وطريقة تناولها، فإن هذا هو الذي يخلق الوئام الاجتماعي، ويعود الناس على تقبل أفكار الآخرين وتفهمها، مما يحاصر فكر التطرف والعنف والغلو، ويعمق مفهومات الوسطية والاعتدال داخل المجتمع.

إن واقعنا الخاص أو محيطنا العربي والإسلامي هو محيط قد تشكل عبر مئات السنين، امتزجت فيه مذاهب وفرق، وتنوعت فيه الأفكار حتى أصبح هذا التنوع جزءا من منظوماتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، وهذه الاختلافات لا يمكن أن يمحوها التمني، أو أن يتفانى الناس حتى يسود رأي على رأي، (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم..) مع وجود آراء ومذاهب تشكل الغلبة على المشهد هنا وهناك، إلا أن هذه الغلبة لا تعني إهدار حق المختلفين حتى لو كانوا قلة، مع عدم فرض الأقليات رؤاهم على الأغلبية، فحقهم سماع الرأي، وتقديم الأفكار، والمساهمة في بناء المجتمعات والنهضة في مجالاتهم السياسية الخاصة.

إن ما يحدث الآن في الواقع العربي من حراك، والمحاولة لترتيب الأوضاع بعد الثورات التي حصلت في عدد من البلاد العربية يعطي دلالة على أنه لا يمكن إقصاء طرف والاستئثار بالمشهد دون الآخرين، وخاصة في تسيير مسائل الناس المدنية، ومشاركتهم في صناعة القرار، وإعطاء الفرصة للأجيال لأن تكون مساهمة في بناء مستقبلها ونهضتها رغم تنوعها واختلافها، شريطة أن ينتظم هؤلاء عبر رؤية دستورية حاكمة، تكون هي المرجعية النهائية والتي تفصل ما اختلف فيه بينهم، وهذه الرؤية المدنية الجامعة مارسها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المدينة، وكتب بين الناس وثيقة ترتب العلاقات بين الناس مع اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، والفقه الإسلامي يطفح بالقواعد والقوانين التي تنظم حياة المختلفين في الوقت الواحد، وترتب المسائل بما يفوق حتى تصورات الأفكار الوضعية في صياغة هذه النظم وهذه القوانين الحاكمة.

لا يمكننا أن نخلق من الخلاف مجالا خلاقا إلا إذا كانت أصول الحوار والخلاف هماً تربوياً تضطلع به مؤسساتنا التربوية، وبعدا نربي عليه أبناءنا، ونعودهم على سعة الصدر في تقبل الآراء، وتدريبهم على إعمال العقول والمقارنة بين الآراء، وفحصها والمناقشة حولها حتى تنضج، ووضع القواعد الضابطة لهم في تعاملهم مع المسائل الفكرية والعملية، حتى يصبح هذا الجيل قادرا على التعايش مع المخالف، ومقدراً آراء الآخرين مهما اختلف معها، وبهذا نحقق الوئام والنضج في الآراء والقضاء على حالة الغليان الفكري التي يعيشها الكثير منا.