من المعلوم في معظم العالم العربي أن إبداء الرأي المخالف في أمور السياسة والدين قد يكون ثمنه باهظا، ­­والمترتبات عليه لا يمكن تحملها. لذا لا يلام الناس كثيرا عندما يلزمون الصمت نحو هذه الأمور، فالوالدان يربيان الطفل على عدم التدخل في ما لا يعنيه حتى لو كان محقا، مؤسسين بذلك لثقافة التعايش مع الخطأ بصمت. لكن عندما يكون النقد موجها للقطاعات الإنتاجية الخاصة والعامة فالأمر لا يكون بهذه الخطورة، حيث الموظف أشبه بالصفة الوراثية، يستحيل التخلص منه إلا في حالات نادرة. فهو يتمتع بالحماية القانونية التي تجعل من الصعب الإضرار به في رزقه، لكن مع ذلك تجد في داخل المؤسسات ثقافة الخوف وتشجيع الصامتين بأن تلهيهم عيوبهم عن عيوب مديريهم، فلا يتدخلون لوقف مد الفساد. والوضع لا يقف عند حد الخوف غير المبرر بل يتعداه لتثبيط وإحباط أي شخص يحاول فعل شيء لتعديل مسار الأمور، حتى ولو بمجرد رأي. فيسارع كثير من المتخاذلين عن واجبهم ببث الرعب في قلب الشخص الجريء، والتبرع بإخباره عن قصص وتجارب عايشها شخص ما في مكان ما، والمصير المؤلم الذي لاقاه لأنه بالضبط تبرع بمحاولة التصحيح.

وإذا أصر صاحب المبادئ على الاستمرار قُدما تزداد شدة محاولات ثنيه لتصل لنقده وتسفيهه، وإشعاره بأنه غير طبيعي وما يعجبه العجب، أو بعبارة أكثر تهذيبا بأنه لا يرى سوى النصف الفارغ من الكأس، وكأن النصف الفارغ ليس فارغا حقا ومن حقه أن يسأل أين الباقي؟ كل هذا الكم من ردات الفعل السلبية يعايشها من يحاول أن يرفع صوته ولو بكلمة، أما إذا حاول فعليا التصرف فسيقصى، وكأنه مصاب بمرض معدٍ.

وما يجعل التساؤل ملحا في عقلي هو أنه بالإضافة لحماية الأنظمة والقوانين هناك الحصانة الإيمانية التي نرددها ليلا ونهارا، فالأرزاق على الله، والله هو من يضر ومن ينفع، وهو من يمهل ولا يهمل، وصلواتنا الخمس حرز من أي ضرر، لكنهم مع كل هذه المعاني لم يفلحوا في تخليص أنفسهم من الصمت. لم يستطيعوا أن يرفضوا موظفا بواسطة على سبيل المثال؟

أو حتى ترك من يحارب هذه الظواهر ليقوم بمهمته وعدم المساهمة في تحطيمه، بل دعمه حتى ولو بالكلمة الطيبة. فمثل هؤلاء الأفراد هم صمام الأمان في المجتمعات، وتكاثرهم يعني أن عجلة الحراك الاجتماعي إذا لم تتحسن فهي بالفعل لن تنحدر، بل إن نقص عددهم يعني مزيدا من الانحدار، فهم يأخذون على عاتقهم قول كلمة "لا"، ويكونون دائما غير راضين عن خروج الأمور عن مسارها الصحيح، حتى وإن كانوا أبعد ما يكونون تأثراً بالظواهر السلبية التي لا تتوافق مع مبادئهم. هم يتدخلون وكأن قدرهم هذه المهمة، وكثير ممن صادفت يعد سلوكهم هذا كأنه لون جلدهم الذي لا خيار لهم فيه. مثل هؤلاء يجب تقديرهم وتشجيعهم ولو حتى نفسيا، وعدم نقل عدوى خوفنا غير المبرر لهم أو في أسوأ الخيارات تركهم وشأنهم لا دعم ولا تثبيط.