أشياء كثيرة تمر وتتراكم خلال أيام بسيطة، فالزمن أسرع من اللحاق به، ووسائل التقنية الحديثة فتحت الأبواب الفضائية والاتصالية على مصاريعها، لتدخل الأحداث بتسارع وبكميات كبيرة يصعب رصدها جميعاً. في أسبوع واحد يمكن أن تجد أكثر من حدث، والحدث الأول ينسخ الحدث الآخر، والكاتب اليومي يصعب عليه رصد وإعطاء قراءة للأحداث لتسارعها، فضلا عن كاتب الرأي الأسبوعي من أمثالنا، أو حتى أصحاب القراءات الفكرية الذين يقرؤون الأحداث بإطارها الفكري الثقافي أو "السوسيوثقافي" الذي يحتاج بطبيعته إلى نوع من التحليل المعمق، التحليل الذي لا يأخذ بظاهر الأحداث بقدر ما يربطها بإطار إنساني وثقافي عام، بحيث تعود الأمور إلى هذين الإطارين كلما جنحت الأحداث إلى التشتت والفوضى المعلوماتية والثقافية، والأحداث في شكل من أشكالها هي دائرة متداخلة مع دوائر أخرى لا يمكن فصل بعضها عن بعض، ولذلك فإن الأحداث المعلوماتية قد تصنع الأحداث الواقعية كما أنها نتيجة لها من جهةٍ معاكسة.
كل حدث معلوماتي مهما كان صغيراً يوحي بأحداث أكبر، ربما تَنْجَرّ إليه الكثير من الأمور، ويُفضي إلى أحداث أكثر زخماً وأكثر دراماتيكية لو لم تتم معالجتها بشكل سريع وعقلاني جداً.. لم يعد الحدث الصغير صغيراً في فضاء معلوماتي وتقني زاخر بالآراء المتعددة والمتفرقة والأخبار المتناقضة. لقد أصبحت التقنية سؤالاً فلسفياً، ولم تعد سؤالاً تقنياً خالصا؛ بل لها تداعياتها الثقافية والاجتماعية التي تتشكل وفق الفضاء المعلوماتي والفضاء الواقعي على حد سواء.
كل حدث له إرهاصاته السابقة، كما أن له في نفس الوقت تداعياته اللاحقة. لا أتحدث هنا عن أسباب مباشرة للحدث ولا عن نتائج مباشرة، وإنما أتحدث عن فضاء سابق يمكن إدراج الأشياء الكثيرة في تشكيلها للحدث حتى وإن كانت بسيطة ربما تمتد لسنوات طويلة، كما أتحدث عن فضاء لاحق له أكثر من نتيجة، وتترتب عليه أحداث معاكسة للحدث الأصلي. الثورات العربية مثلا ليست وليدة لحظة انفجار سريع في الشعور العربي للظلم والإحساس بالكرامة، وإنما هي وليدة سنوات طويلة وفضاء إنساني مُهَمّش ومُحتقِن لأسباب طويلة لا يمكن حصرها هنا، كما أن الفساد مثلا ليس وليد حدث صغير ومباشر لرجال فاسدين، وإنما هو وليد فضاء يبرر التصرفات للأقوى ويستضعف المواطن، فقط لأنه لا سلطة لديه. الفساد يتأسس في عدم رقابة السلطة، سواء كانت تنفيذية أو تشريعية أو قضائية أو غيرها. وهذا التأسيس يمتد إلى أبعد من ذلك، ربما يصل إلى الفضاء التراثي نفسه الذي يجعل لبعض الرجال سلطة عن بعضهم الآخر بحكم السلطة التاريخية وهكذا، فالمسائل أبعد من أن نؤطرها في إطار مباشر ومحدود للحدث.
الإشكالية التي تبرز مع وجود أي حدث أن التعامل مع الأحداث على تراكمها يتم من خلال تجزئتها إلى أكثر من حدث، وفصل كل حدث عن فضائه العام، أو عن سياقه بحيث يصبح حدثاً وحيدا ليس له صلة بعوامله الكثيرة والطويلة التي شكلته، كما يتم التعامل مع الفضاء المعلوماتي والواقعي بنوع من التهميش والتجاهل دون أخذه بمحمل الجد، والنظر بتسفيه للتحرك الجديد للمجتمعات التي تختلف تماماً عما كانت عليه في سنوات مضت، أو التعامل مع المجتمعات بنظرة ما قبل المجتمع التقني.
أحد المسؤولين في عسير، الذي انتشر له مقطع على اليوتيوب ما زال يعيش فكرة ما قبل المجتمع التقني. إذ على علمه بوجود التصوير إلا أنه مازال يفكر بعقلية المسؤول التقليدي قبل حوالي عشر سنوات. ذلك المسؤول الذي يصح له طرد المراجعين دون أدنى إحساس بالذنب. الفرق أن هذا المسؤول افتُضِح أمره مع وجود التقنية، والآخرين ما يزالون ينتظرون. يا ترى كم مسؤولاً طَرد مراجعاً من مكتبه؟ أنا أجزم أن القراء يعرفون الكثير من القصص سواء صارت لهم مباشرة أم لآخرين يعرفونهم. السؤال: ما الذي قاد إلى مثل هذا الحدث البسيط والذي جعل الأمر يكبر في فضاء المواقع الإلكترونية؟ إن الفضاء الثقافي العام للمجتمع يضع سلطة عامة للمسؤولين بحيث لا توجد سلطة شعبية رادعة لمثل هؤلاء، ومع ضعف الرقابة الحكومية؛ فإن الحدث سيكون له ما وراءه من أحداث تتكرر، وما كان ذلك الرجل إلا فرداً واحداً من منظومة وظيفية كاملة نجدها في كل مكان. إن صوت المحاسبة للمسؤولين مهما كانت مراتبهم (تكاد) تكون غائبة إلا كرجل فضحه الإعلام. إن سؤال التعقل يغيب في العديد من الأحداث التي تبرز بين فينة وأخرى، ومع توالد الكثير من الأحداث تصبح الفوضوية الثقافية مسألة تحتاج إلى نقد، ونقد جذري يضع المبضع على الجرح مباشرة. سؤال التعقل يحتاج إلى الشك في خطاباتنا التي اعتدنا عليها وعلى تداولها، والنظر من زوايا جديدة تضع الجميع تحت طائل المساءلة من غير مواربة، فلا يوجد حدث من غير فضاء عام، ولذلك فمن المهم تصحيح ذلك الفضاء مع تصحيح الحدث نفسه. إن محاولة بتر الألم من غير معرفة الدوافع له أو معرفة المسببات الطويلة تصبح ـ في رأيي ـ معالجة ناقصة لا تحل المشكلة، إذ سرعان ما يعود الألم متى ما وجد الوقت المناسب.