الثابت أن عملية ترجمة ضخمة تمت من اليونانية إلى السريانية ومن السريانية إلى العربية ومن اليونانية إلى العربية. هذه الحركة ذات الأبعاد المتعددة السياسية والاجتماعية والاقتصادية قدم لها أكثر من تفسير، وبرأيي أن حركة من هذا النوع لا يمكن أن يستوعبها مفسّر واحد بل من الطبيعي أن تشترك فيها عدة عوامل تعززها وتجعلها تستمر لمدة طويلة كما هو الحال في القرون الثلاثة الإسلامية الأولى أما أهم هذه الأسباب لحركة الترجمة فهي برأيي التالي:
أولا: الحاجة التطبيقية العملية:
أ- حاجة الدولة التنظيمية: فمع توسع الحياة المدنية في الدولة الإسلامية كان من الضروري مدّ هذه الدولة بأهم ما هو موجود في تراث الدول المجاورة ذات التاريخ الطويل في الحضارة. ولذا نجد أن من أول ما ترجم كان الدواوين وسجلات الجند وما يتعلق بالتنظيمات الإدارية.
ب- الحاجات الطبية والعلمية : أيضا احتاج المجتمع النامي المتمدن إلى الكثير من الخدمات الضرورية مثل الطب وأدواته العلمية من الكيمياء. كما مثّل التنجيم حاجة ضرورية لمعرفة المواقيت ومواعيد الزراعة وغيرها من الحاجات، وقد ركّز المستشرق ديمتري جوتاس على عامل التنجيم واعتبره عنوان الأيديولوجية التي تبنّاها المنصور، ومن المعلوم أن المنجمين كانوا عناصر أساسية في قصر المنصور، وكان يستشيرهم كثيرا في قضايا مهمة.
ثانيا: هو أنه قبل غزو المسلمين للشام والعراق ومصر وإيران كان هناك مدارس فلسفية ذات تراكم زمني، ويوجد فيها طبقة من المهتمين بالعلم. شكلت هذه الطبقة أبرز الفاعلين في حركة نقل الفلسفة، وهم بهذا يستكملون ما استمر في تاريخهم ووجدوا دعما رسميا بسبب أنهم يساعدون في تحقيق الهدف الأول.
ثالثا: الحاجة المعرفية سواء للأفراد أو التيارات، فمن الطبيعي أن يتوفر في أي مجتمع أفراد متطلعون للعلم وجدوا في هذه الحركة مبتغاهم. كما أن التيارات الفكرية الإسلامية وفي إطار صراعاتها الأيديولوجية الداخلية والخارجية احتاجت إلى دعم معرفي لمواقفها، ولم تجد أفضل من الإرث الفلسفي لتتكئ عليه.
رابعا: توفر قادة سياسيين متنورين دعموا المعرفة وسعوا لنشرها في المجتمع بقدر الإمكان. ولا يخلو الأمر طبعا من أن هؤلاء القادة كانوا يتصرفون ضمن دوافع أيديولوجية ومن أجل مقاومة تيارات معارضة (المأمون ضد الغنوص) إلا أن وعي هؤلاء الحكام بأهمية العلم هو ما دعاهم إلى الاستناد على المعرفة والتقوّي بها.
خامسا: يذكر ديمتري جوتاس أن المترجمين من أصول فارسية كانوا يرون أن الترجمة من اليونانية إلى السريانية هي عملية استعادة لعلومهم الأصيلة التي نهبت منهم إثر غزو الإسكندر الأكبر لهم.
لكن ما طبيعة هذه الترجمات؟ يمكن القول إن الالتقاء العربي بالفلسفة كان في البداية بهدف الفائدة العملية في مجالات الحساب والكيمياء والطب. وهذا أمر طبيعي باعتبار أن الثقافة العربية تعتبر فقيرة جدا في هذه المجالات مقارنة بالثقافات العتيدة، اليونانية والفارسية وبقايا البابلية. إلا أن طبيعة العلوم في ذلك العصر جعلت من هذا الاتصال بهدف علمي أساسي يحمل معه فكرا نظريا لا يمكن الاستغناء عنه. فالفلسفة والطب والفلك والكيمياء كانت في الغالب تشترك في منظومة واحدة لا يمكن فصلها.
ومن شبه الثابت أن الاتصال الأول بين العرب المسلمين والفلسفة اليونانية كان من خلال المدرسة الأفلاطونية المحدثة، والأفلاطونية المحدثة مذهب فلسفي تطوّر عن فلسفة أفلاطون، وأخذت أيضا عناصر من أفكار فيثاجوروس، وأرسطو والرواقيين. وقد أسس أفلاطون الأفلاطونية المحدثة. أما رواد الأفلاطونية الآخرون فهم أتباع أفلاطون بورفيري وبروكلس.
تعتبر الأفلاطونية المحدثة تعبيرا عن التلاقي بين الغنوص الشرقي (الهرمسية أساسا) والفلسفة اليونانية. وقد سبب هذا الالتقاء الأول في إحداث الكثير من الخلط واللبس مثل نحل بعض كتب أبرقلس إلى أرسطو ونسبة الفارابي كتاب "الأثولوجيا" لأرسطو بينما هو في الحقيقية عرض لبعض تاسوعات أفلاطون. من المهم الإشارة أيضا إلى تأخر الاتصال بفلسفة المشائين (أرسطو خصوصا) إلى ما بعد المئة الأولى كما يورد ابن كثير نقلا عن الشيرازي في كتابه (الأسفار الأربعة): أن المسلمين اتصلوا بالفلسفة اليونانية في المئة الأولى ولكن ليس على الفلسفة المشائية.
حقق هذا الاتصال الأول عددا من الآثار فمن جهة أولى فقد عزز وجود الغنوص الشرقي داخل المذاهب الباطنية الإسلامية، ومن جهة أخرى فقد استثار المتكلمين الأوائل من أجل الرد عليه والدخول معه في جدل وحوار حول قضايا ميتافيزيقية متعددة. وبحسب الجابري فإن الدولة العباسية استعانت بأرسطو من أجل حرب الغنوص الشرقي المتمدد الذي تم تبنيه كأيديولوجيا من قبل المعارضة الشيعية خصوصا، ولذا نجد أن حضور فلسفة أفلاطون وأرسطو في السياق العربي اشتد مع بيت الحكمة حتى إن الكندي وهو أحد أبرز أعلام هذه المدرسة قد تأثر بأرسطو أكثر من غيره كما يورد بدوي في موسوعة الفلاسفة. أيضا نجد أن المنطق الأرسطي أخذ اعتبارا كبيرا في أغلب المدارس الفكرية العربية.
إذن السياقات الفلسفية في الثقافة العربية منذ بداية الإسلام حتى لحظة الكندي يمكن تلخيصها في التالي، أولا: الغنوص الشرقي المتمثل في مزج الفلسفة بالدين. الهرمسية كانت أبرز تيار غنوصي في ذلك الوقت، وقد كانت الإسكندرية هي المنبع الأول الذي التقى من خلاله العرب المسلمون بالهرمسية كعلم. ليس المقصود هنا الهرمسية كدين أو تصوف فلو كانت كذلك لما أدرجناها ضمن البحث في السياقات الفلسفية، ولكن المقصود هنا هو الهرمسية وقد أصبحت فكرا يقدم في صيغة فلسفية من خلال التقائه مع الأفلاطونية المحدثة في الإسكندرية.
ثانيا: الفلسفة المشائية أو الأرسطية تحديدا، وبحسب الروايات فإن انتشار هذه الفلسفة تأخر مقارنة بالأفلاطونية المحدثة الهرمسية، وقد أدى الخلط في نسبة الكتب إلى نسبة الكثير من الآراء والأفكار إلى المشائين، بينما كانت للأفلاطونية المحدثة، ووجدت الأرسطية توهجها مع بيت الحكمة العباسي، وإذا أخذنا بمقولة أن العباسيين استعانوا بأرسطو من أجل حرب الغنوص فإن شواهد كبيرة على ذلك تدعمنا، فنجد أن يوحنّا بن ماسويه أول رئيس لبيت الحكمة يترجم بجانب كتب الطب كتاب "البرهان لأرسطو". كما أن حنين بن إسحاق خليفة ابن ماسويه على رئاسة بيت الحكمة الذي عيّنه المأمون يترجم أرسطو الفيلسوف بجانب الأطباء جالينيوس وأبقراط. كما أن حلم المأمون الشهير يحضر فيه أرسطو وليس أحد غيره.