على كثرة غثائها وازدحام الفضاء المتخم بتقاريرها الخادعة ومهنيتها الانتقائية إلاّ أن قسطاً وافراً من المواطنين العرب والمسلمين ما زالوا عالقين في ساحات الأغلبية الصامتة بانتظار حصتهم من الأثير، أسوة بغيرهم من جمهور المشاهدين الذين تتوزعهم القنوات الإعلامية، أو بالأحرى يتوزعون فيما بينها بمقتضى الهوى وحسب جغرافيا الانتماء السياسي أو المشرب الفكري. وبينهما يلتقط النخبة من بعض تلك القنوات محددات الفوضى الخلاقة ووجهتها.

لقد صار بوسع الفقراء والأميين والمتشردين بحثاً عن مأوى ادخار تطلعاتهم والكف عن ممارسة دورهم في التنمية، ما داموا قادرين على تحقيق الشبع المجاني من المتابعات الإخبارية.

دول عظمى وأنظمة حكم مستبدة.. ومطابخ استخبارات من كل لون وماركة وحدب تسهر على صناعة الفوضى، وإتقان سيناريوهاتها وإعداد فرقها، وتهيئة مناخاتها، احتشاد رؤوس أموال، وازدحام قادة أحزاب، وتدفع أمراء حروب وبمعيتهم آلاف التروس الصغيرة العاملة ضمن مشغلات ضخمة تُعنى بالتهام الحقائق وإطلاق المناحات عليها في وقت معاً.

لدى كل عاصمة عربية جبل من القش المركوم.. وليست المشكلة أن يطول أمد الاشتعال ولا التخلص من الرماد مثلما هي رؤية (نيرون) على مقود عربة إطفاء!

أكان هذا هدف الوزيرة الأميركية السمراء عند اختراعها قفاز الفوضى الخلاقة بعد عمر من مداهنة المستبدين واستدراجهم إلى شراك المكابرة، ريثما تتوافر المبررات المنطقية الكفيلة باستدعاء المخلص، وطلب تدخله الإسعافي لإنقاذ الشعوب ونجدة الأحرار وإعمال المواثيق والشرائع الدولية ضد الدكتاتور الأرعن. وفي هذه الأثناء وتزامناً معها تصدر التعليمات الملائمة بانسحاب الكاميرات من منصة الحاكم والتوجه الفوري إلى مسرح الكارثة.

إن جاز لنا اعتبار ما يجري في اليمن أنموذجاً سنشهق بالضحك، وما من أسباب للمسرة، لكنه ضحك كالبكاء. كل القنوات الإخبارية تعزف على قيثارة التغيير.

أميركا وأوروبا وربما نيكارجوا وجزر القمر وفقهاء النجف.. الجميع منزعج جراء الاستخدام المفرط للقوة.. لطالما حدث هذا الاستخدام إن لم يكن راهن العنف أقل مقارنة بما كان عليه من بذخ في أحايين سابقة وما أكثرها. لم يعد مسرح الأحداث يروقنا، ولا ساحات الثورة تتسع لنا، إننا نسمع دوي الانفجارات من (الجزيرة) بوضوح أكثر! أسأل إن كان هذا الاهتمام الحصري بالثورة ينبع عن تعاطف نبيل مع الشعب أم تعبير عن موقف سياسي مسبق حيال نظام كثر شاكوه وقل شاكروه. وفي مثل هذه الحالة أيهما يعمل تبعاً للآخر الثورة أم "الجزيرة"؟ كل القنوات تفعل شيئاً قريباً من هذا، لكنها لا تعتبر نفسها (صوت من لا صوت له) وهو شعار مازح يتقاطع وأدائها الموجه في خدمة أعلى الأصوات، ومن تجربتنا مع هذه الفضائية ندرك مقدار الفشل الذي تمني به جملة من القضايا العادلة التي تعجز عن فك شفراتها، أو استمالتها لتغطية فعالية لا يقف خلفها نافذ رضع من ثدي السلطة ونام في حضنها الدافئ جل عمره، قبل أن تعيد الجزيرة إنجابه في صورة ثائر.

أتذكر على نحو مؤسف عدد القنوات العربية والأجنبية التي وفدت – قبل سبع سنوات – لتغطية مهرجان تنظيمي حاشد للحركة الديمقراطية للتغيير والبناء، وفجأة يقرر مراسلوها الانصياع لفيتو الحاكم، والعمل بإرشاداته الحكيمة بحجب التغطية حتى يتبين الخيط الأحمر وتتضح هوية التغيير الذي تدعو إليه الحركة، وتناسبه مع مهنية وحيادية القنوات الفضائية التي يعمل بعض مراسليها بنظام الشريحتين كما في تعبيرات رأس الرجاء ـ النظام ـ!

أكان التغييير حينها حراماً طالما طريقه غير مفروش بالجثامين..

وما الذي يجعل الإعلام حكراً على البؤر الملتهبة والمناطق الساخنة.. مزاج المشاهدين! أم عوامل الإثارة والسبق.. أم السياسة بشقيها، المصالح الدولية من جهة وعداءات الإخوة الأعداء من الأخرى؟

مخطئ من يعتقد أن عدواً خارجياً أو داخلياً يدمر البلاد أكثر من سلطة الرئيس صالح.. لكنه يستحيل – بالمقابل – على أحد إلغاء جبال وسهول وأودية وشعب اليمن ليحل مكانها أستوديو رقم 2 لقناة فضائية مرموقة.

في تصوري أن المال والسياسة يغتصبان الفضاء ويدمران أجمل ما تبقى لمجتمعاتنا العربية، من شعور بالسعادة أو إحساس بالطمأنينة، وهما يقتحمان حياتنا بوسائل ضاجة تفسد فرص الإفلات من الخيارات المأزومة، بل هما إلى ذلك يجهزان على مستقبل التغيير بوصفه دعوة للحياة لا انقسام معسكرات وتراشق قذائف.

ترى.. هل تساعدنا الأقدار بوسيلة عربية تخاطب العقل وتربط التغيير بالمعرفة؟ إذ لولا الجهل ما احتجنا إلى استدعاء ثقافة الموت سبيلاً لمواجهة مستبد صعد إلى السلطة على أكتاف الأميين. إننا لا ننتقص من الدوافع الأخلاقية الكامنة وراء اهتمام الإعلام المتلفز بتغطية جرائم السلطات المستبدة ضد مجتمعاتنا، ولا ننكر أثر هذا الجهد على غل يد الحاكم وتعريته، لكننا لا نريد من إعلام كهذا أن يكون غطاء لإعادة إنتاج أدوات الصراع، وإفراغ قضية التغيير الجذري من محتواها الوطني والإنساني.

حين يذهب شباب في مقتبل العمر إلى ساحات الثورة وتستبقيه الأقدار لحاجة الحياة فلماذا تطلب منه أطراف في الصراع و تحثه آلياتها الإعلامية على ترتيب وضعه الثوري، إما قاتلاً بمرتبة مناضل أو قتيلاً بمنزلة شهيد، وله أن يجمع بين الحسنيين؟! لماذا لا يكون الثائر منتصراً لحقه المشروع في تدبر شؤون المستقبل بدلاً عن هذه الأطراف، أو بالأصح القيادات الأبوية التي كانت يوماً على يمين الحاكم أو يساره؟ ثمة حاجة قصوى لتعويض عادل يتعاطى بإنصاف مع الجمهور العربي المصادرة حقوقه على وجه الأرض وفي الفضاء.

دعنا نستعذب الأمنيات ونعتقد في بادرة الأمير الوليد بن طلال وعداً بدفعة أولية على ذمة ذلك التعويض.. كيف؟

في النية ضخ تطلعات استباقية تعلق على قناة (العرب) التي يمول الأمير مشروعها تماماً، كما يضع رهان نجاحها على كاهل الإعلامي البارز عربياً جمال خاشقجي، في إشارة واضحة على جدية المشروع واقترانه بأهداف تتجاوز مجاراة الغثاء إلى إبداع معنى الريادة، ومعلوم أن الأهداف الكبيرة يتعذر النهوض بها دون إدارة ذات كفاءة ومراس إعلامي مائز.

إننا نتوق لرؤية أحلام يمنية وخليجية تتبرعم في الزوايا المنسية، ويشوقنا معاينة أفكار قريبة من حاجات مجتمعاتنا. نتمنى نشوء كيانات سياسية تحترم المستقبل ولا تجعل منه وقوداً لاحترابات الماضي، ونريد عدسات مختلفة تقيم الموازين القسط بين هديل الحمام ولعلعة الرصاص.. نريد من هذا الفضاء أن يتسع للفكرة ويناقشها ويتفحص حيثياتها، ويقدمها إلى الناس على صورة باقة بشريات من اكتشافاته.