تقول الأخبار إن بعض متهمي سيول جدة كشفوا – لغز – فتح المظاريف التي كانوا يعبرون من خلالها إلى لعبة المال السائل ما بين مقدم الظرف وبين فاتحه. وعتبي على الأخبار أنها لا تكشف أيضاً أنواع المظاريف رغم أنها أي المظاريف، مجرد مدرسة ابتدائية بالية في عالم الفساد الأنيق لأربابه الذين حازوا درجة الأستاذية في جامعة الفساد التي دخلنا عبرها إلى نادي المئة لأفضل جامعات العالم في هذا التخصص الفريد، بل أجزم أننا بين جامعات الفساد العشر الأول، وهو إنجاز برهنته عشرات الشواهد وليس أقلها أساتذة سيول جدة.
وبالطبع، انتهى زمن المظروف البريء الذي كانت فيه والدتي ترسل سلامها وأشواقها إليّ في زمن الغربة الدراسية. وعبر المظروف المختوم في مناقصة أو مشروع هطلت أمطار السحاب لتسحب بها عشرات الجثث. تصوروا كل هذه الأمطار السائبة في آلاف الشوارع وكلها تدفقت من بوابة مظروف صغير في مكتب حكومي. كيف استطاع هذا المظروف السحري ما بين شخصين، وفي غرفة مكيفة، أن يتحول إلى سيل عرمرم. وبالطبع، وقد أكثرت اليوم من الطبع، فأنا لا أتحدث عن المظروف المفتوح في لجنة ترسية المشاريع. أنا أتحدث عن نوع آخر من المظاريف. عن المظروف الصغير الذي يدلف من تحت الطاولة. عن المظروف الذي يدفعه المشتري باليسار إلى يمين البائع في المكتب الحكومي. يتبادلونه فلا تعلم اليمين عما دفعت اليسار، وكأنهم في صدقة جارية. تصوروا أيضاً أن أصحاب بعض خراج هذه المظاريف يهبون منها صدقة جارية وسيمضي بنا الزمن، وأستغفر الله حتى يظن بعضنا أن في بعض الفساد ما يشبه الصدقة الجارية. وإذا كانوا أضعف من أن يطفئوا غضب الرب بهذه الصدقة. فإنهم يطفئون بعض عيوننا حين يذهب بعض ما في المظروف إلى مؤسسات العمل الخيري، ولكم أن تعلموا أن في هذا شيئا من فضل الفساد على سائر العباد: بقي أن نفتح مظروفاً كي نطمئن إلى أن الفساد لدينا تحول إلى جمعية خيرية.
بعض هذه الجمعية الخيرية. ربما كان سبباً، في تحجيم حجم كارثة هذه المظاريف، وببركة مظروف مختوم لم يقتل سوى 120 فرداً ولم يصب أكثر من 350. ببركتها انحصرت الأضرار في 11960 عقاراً ومجرد تلفيات لـ10178 مركبة. ولا تسألوا كيف تحول مظروف إلى سيل هادر بل اسألوا عن البركة التي قلصت حجم كوارث هذه المظاريف.