برزت إسرائيل كقوة إقليمية متفوّقة في القرن الماضي بدعم وتعهّدِ العديد من القوى العظمى، وما لبثت أن تعاظمت قوتها العسكرية والسياسية وبثّت سيطرتها على جميع أنحاء فلسطين التاريخية تقريبا، وأضحت المطرقةَ التي تراقب جميع التحركات في المنطقة، بدءًا من ضرب المفاعل النووي العراقي في الثمانينات، وانتهاء بضرب لبنان مؤخرا. ولكن المطرقة لا تدوم بيد البنّاء، حيث اختلفت الأوضاع وبدأت تسير في اتجاه آخر، لا يرتضيه البنّاء هذه المرة!

كانت لفترة سيطرة الجمهوريين (المحافظون الجدد) على رئاسة أميركا وما واكبها من صعود لتيارات اليمين في العديد من أنحاء العالم، خصوصا في أميركا وإسرائيل تحديدا؛ كان لها دور كبير في تغيير المسار بشكل عكسي لما أراده أولئك، من مدّ المزيد من النفوذ والسيطرة على منطقة الشرق الأوسط تحديدا والعالم بشكل عام، وتعالت العديد من الصيحات من العقلاء والمفكرين الكبار في ذينِك البلدين من أن مواجهة العالم والشعوب بتلك الطريقة المستفزة وتحدّي إرادتهم وحرّياتهم لن تُسفر إلا عن المزيد من المشاكل والصعوبات. أذكر مثلا محاضرة لجوزيف ناي أحد المنظّرين المنتمين للحزب الديموقراطي الأميركي وصاحب كتاب القوة المرنة، وكانت أثناء رئاسة بوش، حيث كان ينتقد الطريقة التي كانت تسير عليها الإدارة الأميركية آنذاك، وأنها طريقة أقرب إلى السذاجة السياسية أو الغباء السياسي، ولا تعترف بأسلوب القوة المَرِنة ـ كما يقول ـ لإدارة الأزمات والمشاكل.

أعود إلى موضوعنا، كان لإسرائيل طموحات كثيرة في مدِّ نفوذها بل وأراضيها إلى أوسع مما هي عليه الآن بكثير، وكانت تتعالى العديد من التصريحات التي تخرج من هنا وهناك في إسرائيل لتؤكد الحق اليهودي ـ كما يزعمون ـ بالحدود التوراتية لأرض إسرائيل! ولم يكن أحد يجرؤ أن يمد يده إلى الدولة الحديدية المتفوقة في المنطقة تلك الأيام! ولكن لننظر الآن ما هو الوضع؟

لا شك أن هناك مجموعة عوامل أثّرت مجتمعةً في القوة الإسرائيلية والنفوذ الغربي بشكل عام في المنطقة، إلا أنني سأركز على ما يدور حول موضوعنا. حيث نجد أن عدم حسم أميركا لحربها على ما يُسمى بالإرهاب في أفغانستان، وعدم استقرار الأوضاع لصالحها، وامتداد ذلك إلى داخل باكستان النووية، ثم ما تلا ذلك من فوضى وحرب دامية داخل المعركة الخاسرة الأخرى في العراق! والمفاجأة الساخنة بانتقال النفوذ والسيطرة داخل الساحة العراقية إلى النفوذ الإيراني، وإدراك أميركا ومن معها من القوى الغربية بأن الرابح الحقيقي من الغزو للعراق هو إيران! كل هذا بلا شك أثّر على موقع إسرائيل في اللعبة، وأدركت أنها في وضع يزداد ضيقا. كم كانت تلك الدعوات لكبح الجماح الأميركي آنذاك، ومحاولة توعيته بالخطر والمغامرة اللذينِ كان مقدِماً عليهما، وكانت هناك جهود لدول الخليج نحو محاولة إيقاف الاندفاع الأميركي نحو المخاطرة، إلا أن الغرور والكبرياء كان حاجبا منيعا أمام العقل!

تلا هذه الأحداث غزوُ إسرائيل للبنان، وما خلّفه من ازدياد نفوذ حزب الله ومن خَلْفِه النفوذ الإيراني، ثم حرب غزة الأخيرة، وكيف أن تلك القوة الإسرائيلية الأسطورية عجزت في اقتحام بضعة كيلو مترات! مع الوضع في الاعتبار أنها مدينة تحت الحصار لفترة طويلة، وليس فيها جيش نظامي ولا أسلحة متطورة! بل هي الإرادة وتجمُّع لقوة الوقوف أمام الظلم والطغيان. كانت هناك العديد من العروض والفرص للصلح مع الفلسطينيين، وكانت ستمنح إسرائيل شيئا من الشرعية والاستقرار لولا آفة الغرور والاستعلاء! تلك الفرص لم تعد قابلة للنقاش حالياً، بل الوجود الإسرائيلي مهدد اليوم، خاصة مع اندلاع الثورات الشعبية في العالم العربي، التي ستؤدي بلا شك إلى اضمحلال النفوذ والتسلط الإسرائيلي في المنطقة.

لطالما تنادى العديد من العقلاء في إسرائيل بمعالجة المشكلة مع الفلسطينيين ومن ثمَّ العرب، ومن بينهم سياسيون كبار مثل رئيس الكنيست السابق إبراهام بورج، وطالبوا بتقديم تنازلات لازمة لصالح الفلسطينيين، في حين أنه سيأتي الوقت الذي لن تُجدي شيئا، بل هاهو الوضع اليوم غير قابل للإصلاح ـ بالنسبة لإسرائيل ـ خاصة بعد الثورات العربية! فمن هو المرشح الرئاسي اليوم في مصر مثلا، الذي سيقبل أن يمد يده لرئيس إسرائيلي، مع ما قد تسببه تلك المصافحة من تكلفة باهظة أمام مرشحيه ومستقبله الانتخابي؟

الدرس المهم من هذا الكلام؛ هو أن الغرور والطمع دائما يأخذان صاحبهما إلى مقتله! وغرور القوي كثيرا ما يجعله يتجاهل الأخطار التي تحيط به، وربما تجعله لا ينظر لحاجات غيره ويستصغرها، مما يؤدي في النهاية إلى تربّص أعدائه به. كما أني لا أصف الوضع السياسي الحالي بالوضع الوردي، بل هو محفوف بكثير من المخاطر التي أتمنى من الله الرحيم أن يلطف بنا وإخواننا في كل مكان.