هي سنة هذه الحياة وقدر المولى ـ عز وجل ـ على خلقه. هي أن تكتب عن الراحلين مستدركاً فعل الماضي فيما (كان)، ولكن: من أي جملة تبدأ في رثاء سلطان بن عبدالعزيز، فلا بد أن تدرك الأثر الذي (سيكون)، ذاك أن الفقيد الضخم (كان) فعل مستقبل في حياة أجيال وقصة وطن. مآثره في الأجيال وقصة جهاده الطويلة هي بالضبط أحلام أجيال – ستكون – ومستقبل وطن أيضاً – سيكون – حتى وإن كانت مسيرة الحياة به – يرحمه الله في فعل – كان -: تلك هي سنة الحياة وأقدار الله في خلقه.

سأبدأ بتاريخ الأفعال قبل نثر الصفات. أعظم مآثر راحلنا الضخم ليس إلا أنه بنى من الجيش السعودي وهو يتسنم هرم إدارته في مفصل جوهري من تاريخ الحياة السعودية، أقول بنى منه مؤسسة مدنية كانت جزءاً من مسيرة التنمية الوطنية العملاقة، ونادرا جداً ما تستطيع دولة على وجه الأرض أن تجعل من قوتها العسكرية الضاربة سلاحاً تنموياً مدنياً، وعبره بنت هذه الدولة ـ حفظها الله ـ عشرات المدن التي كانت شاهداً استثنائياً على عدالة التنمية. ومن تبوك إلى عسير ومن جازان إلى شرورة ومن الطائف إلى حفر الباطن عاشت هذه الأطراف في جسد القلب السعودي النابض. كانت حياة لآلاف الأسر ومستقبلاً لمئات الآلاف من الذين بنوا حياتهم المدنية الخالصة من قلب العمل العسكري الخالص. الدولة التي تحترم أمن مواطنيها وصلابة حدودها هي تلك التي تؤمن تماماً أن الجيش هو الحاجة لساعة، وأن هذه الساعة وحدها لا تحتمل المغامرة في قضايا انتهازية أو عبثية. أما باقي الوقت الطويل فهو للاستعداد والتجهيز مثلما هو للحياة، لأن الجيوش في الأنظمة التي تحترم مواطنيها ومواثيقها تؤمن أن الجيش هو بناء حياة لا ثكنة موت ومصارع ومهالك. تلك بالضبط رأس ما (سيكون) لهذا الراحل الضخم. وفي الساعتين اللتين احتاجهما هذا الوطن لجيشه كان بناء سلطان بن عبدالعزيز على الموعد: يوم كانت حرب الخليج الثانية تحتشد على شمالنا، ويوم كانت فرقة الحوثي المارقة تلهث على أطراف الحد الجنوبي، فكانت هذه المنظومة العسكرية السعودية على الموعد وشاهد العالم بأسره كيف كانت ساعة الحسم.

وما (سيكون) لهذا الفقيد الكبير هو أنه (كان) رأس الجهاز الذي بنى في أطراف هذا الوطن وقلبه هذه المنظومة العسكرية التي كانت للمواطنين رسالة حياة. مدن عملاقة ساهمت بنصف التنمية في هذه المناطق، وهو النصف الغائب لسبب بسيط: لأن طبيعة العمل العسكري لا تحبذ أو تدعو الضوء كي يرى الناس هذه المساحة. ما هي عسير أو تبوك، بالمثال، لولا هذا الجهد الهائل الطويل الذي أمضاه سلطان بن عبدالعزيز منذ حجر التأسيس الأول وحتى هذه اللحظة؟ وأعظم مآثر هذا الرجل من قلب هذه المنظومة ليس إلا أنه خلق من منظومة الفرد العسكري رديفاً لأخيه المدني. لم تكن هذه الحياة في هذه المدن العسكرية سوراً مغلقاً بل بوابة مفتوحة تعلم فيها الآلاف وتعالج فيها أكثر منهم ومن قلب المجتمع المدني.

كان سلطان بن عبدالعزيز رجل دولة من طراز نادر. كان مدنياً متمديناً وهو يرأس هرم الجيش السعودي، وكان عسكرياً صارماً لم يسمح بالمساومة على شبر.

كان رجل دولة يعرف المتر الأخير من حدود بلده عياناً بالرؤية المجردة. كان من النوادر الذين وصلوا بأقدامهم وخطواتهم إلى كل مسافة نظر في هذا الوطن الكبير. كان كبيراً بحجم مساحة هذا الوطن.