* من هذا المكان، الذي تطعن فيه رؤوس الجبال السحابات بحزنٍ وخجل، أكتب هذه المرة، وأفكر في الأنامل المحناة والعجين، في مواسم الحرث والصريم، أفكر في هذا الوقت من كل سنة والقرى تقترب من بعضها أكثر وأكثر حتى تلتصق، مثل بناتٍ صغيرات، يجمعن أكتافهن ببعضها ليواجهن الشتاء بفرحٍ وخوف، بينما يقفز رجالٌ مشدودو الصدور إلى حقولهم، على خصورهم الضامرة أحزمة وحبال قديمة، لكن بوسعها أن تربط العالم كي لا يطيح في أية هاوية. يحدقون في السماء ويصيحون في بعضهم كي يحصنوا سنابلهم وقصبهم ومزاريبهم ومداخل بيوتهم وصغارهم وأوعيتهم ومساكن ماشيتهم من السيول والأمطار والصقيع!
http://www.youtube.com/watch?v =Aj4y 11OZ1_M
* في يوم من الأيام كانت هناك امرأة، بعد أن حطت عن ظهرها قربتها، تناولت رضيعها وضمته، قبلته ونظرت في عينيه، أخذته وخرجت لتجلس على عتبة دارها كي تستقبل به دفء الشمس، فربما تنعش جسده الهزيل، فتحت شقا صغيرا بثوبها المقصب، وألقمته ثديها، كان بيتها بأعلى القرية يطل على الحقول والوادي، ولم تكد قطرات حليبها تبلغ جوف ابنها حتى سمعت صرخات صوتين غاضبين، تلفتت فرأتهما، إنهما رجلان من القرية يقتتلان، عرفت أن أحدهما لن يترك الآخر حتى يجهز عليه، فقامت كالمفجوع، سحبت ثديها من فم صغيرها وألقته خلف الباب، أوصدته وربطت ثوبها، ثم حملت فأس حطبها، وركضت كما يركض سباع الجبال، رفعت الفأس على الرجلين المتشابكين، وحلفتهما بالطين والحنطة أن يقفا للحظة، توقفا، فدخلت بينهما، وأقسمت بالله أن لو اقترب أحدهما من أخيه أن تفلق رأسه بهذا الفأس في يدها. بقيا واقفين لا أحد منهما يمكن أن يتجاوز هذه المرأة، ليس خوفا، بل تقديرا لها ووقوفا عند عار أي تخط أو مساس بها، حينها لم يبق لأي منهما سوى أن ينظر في الآخر بغضب وتراجع، أخذت منهما العهد بحق قيمتها عندهما ألا يتماسا من بعد، ففعلا مرغمين، ثم أمرتهما أن ينصرفا من جهتين متعاكستين، وأقسمت مرة أخرى أنْ لن ترجع لبكاء صغيرها الجائع، ولن تتزحزح من مكانها حتى يغيبا، كلاهما، خلف البيوت!
* لست محموماً إلا بهذه الحكايات العظيمة، تلك الحالة المثلى للقيم والوجود، قبل أن تضرب الريبة البيوت، قبل أن يسقط وجدانٌ بأكمله في شراك المقولات التي كسرت فأس المرأة، وأخرجت الفلاحين من حقولهم ونظرتهم البريئة، وإدراكهم الفطري لمعنى الحياة.. ويا أسفا أنها لم تعد سوى حكايات!.