على الإطلاق لم يكن مفاجئا تعيين الأمير نايف بن عبدالعزيز، وليا للعهد، بل كانت كل التطلعات والآراء الشعبية في حالة توقع مستمر لهذا التعيين؟ يشير ذلك بوضوح إلى أن مؤسسة الحكم في السعودية، ليست مؤسسة محتجبة وبعيدة عن أعين الناس ورؤيتهم، ولا تضم ألغازا أو أحاجي سياسية لا يمكن تفسيرها، وعبر التاريخ السعودي لم يحدث أن كان انتقال المناصب القيادية لغزا أو أزمة.

دعك من تطلعات وأسئلة النخب الإعلامية، واتجه للشارع، لماذا لا يمثل غياب ورحيل شخصية قيادية عن المملكة العربية السعودية سؤالا يدعو للقلق والخوف على المصير والاستقرار والسيادة؟ التاريخ السعودي يحمل جوابا واضحا ومؤثرا عن السؤال. فالسعوديون لا يتعاملون مع أبناء الملك عبدالعزيز على أنهم عبارة عن طبقة حاكمة ذات أسرار وأفكار تدار خلف أبواب مغلقة، بل هم جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي للسعودية.

تحولات التقليد السعودي المتبع في عملية تولية الأمراء للمناصب القيادية إلى عملية مؤسساتية حين أقر خادم الحرمين الشريفين نظام هيئة البيعة، والتي تعد من الخطوات الإصلاحية الأبرز التي شهدتها المملكة في السنوات الخمس الأخيرة، وقد جاءت من وعي قيادي بالتحولات والمراحل وأهمية التأسيس لما هو عرفي وثقافي ومنح مختلف الممارسات بعدا تنظيميا.

هذا واحد من الجوانب التي تؤكد حالة التوازي في التطور والإصلاح بين ما هو عام وبين ما هو قيادي، فالأعراف والتقاليد القائمة في حياة السعوديين، تنطلق من ثقافتهم وقيمهم الاجتماعية والدينية، ولكن، ومع تغير الوقت والظروف والمعارف والأجيال يصبح من الضروري أن تنتقل تلك الممارسات من شكلها السابق لتأخذ شكلا مؤسساتيا. مما يعني أن ما قدمته هيئة البيعة إنما يمثل طمأنينة قادمة من مختلف المعطيات الثقافية للحياة السعودية.

منذ وفاة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن، طيب الله ثراه، والذي وكما أرسى واقعا وطنيا جديدا في الجزيرة العربية، أرسى في الوقت ذاته مؤسسة للحكم، وفق منطق الشرعية الملكية، التي واصلت مسيرتها ومرت بظروف وتقلبات سياسية في المحيط العربي المجاور لها، حيث أدت تلك التقلبات السابقة، وتحديدا في فترة صعود التيارات العروبية إلى تفكيك كيانات، وتغييرات كبرى في كيانات أخرى. كل الدول التي انهارت منظومتها السياسية في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، كان ذلك بفعل هشاشة وضعف مؤسساتها السياسية، وبسبب قيامها على أفراد وليس على منظومة حكم متكاملة، ذلك التكامل والتماسك هو الذي حمى المؤسسة السياسية السعودية، وحمى هذه التجربة الوحدوية الرائدة، وحافظ على استقرارها وثباتها.

كل مرحلة من مراحل الحكم في المملكة، تحمل معها الكثير من التحولات والإصلاحات والقرارات الجديدة التي تسعى لاستثمار تطور الوعي الشعبي العام، وبالتالي تتداخل معه بإجراءات ومستجدات هي في الواقع تلبي طموح مختلف الشرائح الوطنية، وتمثل خطا تصاعديا في النهضة على المستوى التنظيمي والإداري، بل تمثل كذلك استعدادا للتحديات المستقبلية المحتملة، وفي هذا الصدد يمكن التعامل مع نظام المناطق الذي أصدره الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز، على أنه نموذج لحالة التطور الإداري والاجتماعي في المملكة، فلقد أسهم النظام في وضع أرضية تنظيمية، تستطيع إدارة ومتابعة قضايا التنمية والبناء في مناطق المملكة إذ يهدف النظام إلى رفع مستوى الأداء في الأجهزة الحكومية الفرعية وتدعيم الصلاحيات والمهام، وغيرها من العوامل التي تساند تنمية متوازنة عامة. وفي العام 1992 صدر النظام الأساسي للحكم، ليمثل مرجعا تنظيميا وإداريا في فترة كانت هي الأنسب والأولى بصدور هذا النظام والذي تحول إلى قاعدة أشبه ما تكون بالقاعدة الدستورية.

مثل هذه القرارات تأتي تاريخيا في سياق واقع تتنامى فيه الاحتياجات، ودرجات الوعي الشعبي، وحركة المتطلبات التنموية، الأمر الذي يجعل غياب تلك التنظيمات في تلك الفترة خللا بنيويا، ولم يكن بمثل هذه الأهمية قبل ذلك.

إذن نحن أمام استيعاب قيادي لمتطلبات كل مرحلة عبر إيجاد تنظيمات وقوانين تضع أرضية لما هو قادم وتحتوي في داخلها على قابلية للاستمرار والتطور.

في العام 2006 كان صدور نظام هيئة البيعة، حدثا جديدا في مسيرة الإصلاح السياسي في المملكة، إذ كانت المؤسسة السياسية السعودية بحاجة لوجود تنظيم يلبي الظروف والتحولات والمستجدات، ويضع أساسا تنظيميا يحافظ على بنية مؤسسة الحكم ويضمن لها مسارات عملية وواقعية، مما يعكس عاملا مهما من عوامل الاستقرار في المسيرة السعودية، وهو ذلك الاستيعاب القيادي لمتطلبات كل مرحلة على الصعيد السياسي وكذلك على الصعيد الاجتماعي والثقافي، فدخول المرأة في مجلس الشورى، وفي انتخابات المجالس البلدية، أمر لم يكن ذا أهمية اجتماعية قبل عشرات السنين لكنه يمثل الآن استحقاقا اجتماعيا وثقافيا.

من هنا ندرك أننا أمام منظمة من الأداء السياسي القادر على استباق المراحل والاستعداد لها، وهو ما يمثل محورا مهما في محاور الاستقرار الذي تعيشه المملكة.