يبدو الموت في الثقافة العربية على أنه ذلك المارد القبيح الذي جاء ليفسد كل ملذات الحياة ويعكر صفوها. إنه تلك الحقيقة التي تقض مضاجعنا وتجعلنا ننظر باحتقار لهذه الحياة، فهي ـ وإن بدت سنين طويلة ـ ليست سوى ليال قصيرة، وأيام معدودة، ليأتي بعدها القدر المحتوم الذي يجعل تلك السنين تبدو وكأنها لم تك سوى حلمٍ من ليل. وبناء على هذه الفلسفة، نشأت ثقافة لا تقيم وزناً لهذه الحياة، ولا تولي هماً للقيام بعمارتها والإسهام في حضارتها.

أصبحت الثقافة العربية ككل في ذيل الأمم التي يقاس تقدمها وحضارتها بما قدمت في هذه الحياة، وهذا واقع نعيشه ونلمسه ولا يحتاج إلى أرقام وإحصائيات. فحينما يأتي الحديث عن التطور على مستوى العمارة، أو التعليم، أو المخترعات، أو الطب، أو الهندسة، أو سم ما شئت مما يدخل تحت مسمى الحضارة؛ تجد الأرقام تصفّ الدول العربية غالباً في ذيل القائمة. إنها نتيجة لفلسفة العرب عن هذه الحياة وحضارتها بشكل عام، فالحياة أحقر من أن يسهموا فيها.

وفي المقابل هنالك الفلسفة الغربية القائمة على تقدير الحياة كفرصة للاستمتاع بها حتى آخر لحظة؛ ويستلزم التمتع بها العمل بكل ما تستطيع من أجل الحصول على هذه المتعة وتقديم شيء لهذه الحياة.

وهذا ما يوضحه لنا ستيفن جوبز، العبقري الأميركي، مؤسس شركة أبلز، المنتجة للهاتف النقال الذي شكل نقلة في مجال الاتصالات على مستوى العالم.

يقول ستيفن: على مدى ثلاثة وثلاثين عاماً، كل صباح أقف أمام المرآة وأسأل نفسي، لو كان هذا اليوم هو آخر أيامي، هل سأفعل ما كنت أنوي فعله هذا اليوم؟ ولما كانت الإجابة دائماً لا، كنت أعزم على تقديم شيء جديد في هذه الحياة. ثم يضيف: تذكُّرُ حقيقة أننا جميعاً سنموت قريباً هي أهم فكرة ساعدتني على صنع القرارات الكبرى في حياتي. لأن كل شيء يتملك الإنسان، سواء من التوقعات العظيمة، أو الاعتداد بالنفس، أو الخوف من تداعيات الفشل، كل هذه الأمور تضمحل في وجه الموت، لتترك الحقيقة الأهم، وهي التذكر بأنك سوف تموت بلا شيء، وهذه أفضل طريقة ساعدتني على الإبداع في هذه الحياة، إذ حينما أصل إلى لحظة الموت، فليس لدي ما أخسره.

ثم يضيف ستيفن في أحد لقاءاته المتلفزة في إحدى حفلات التخرج بجامعة ستانفورد: تقريباً قبل عام.. شخص الأطباء بأن لدي سرطاناً في البنكرياس، وأخبرني الطبيب بأن هذا النوع من السرطان يمهل مدة تتراوح من الثلاثة إلى ستة الأشهر. ثم أخبرني بأن علي أن أذهب إلى منزلي وأجهز وصيتي وأهيئ أسرتي لفقدي. وفي المساء ذاته قمت بتشخيص آخر، قام الأطباء أثناءه بإدخال منظار عبر حلقي وأخذوا عينات من الورم، وكانت المفاجأة أن هذا الورم من أورام البنكرياس السرطانية النادرة التي يمكن أن تعالج. عالجت المرض وكُتِبَ لي الشفاء.

ويضيف جوبز، ليس الموت مفيداً وحسب وإنما الموت فكرة فلسفية عميقة، تجعلك تشعر بأن وقتك محدود جداً في هذه الحياة، فلا تضيعه لتعيش متلبساً بحياة وأفكار الآخرين. لا تتورط بالدوغمائية، أو محصلة العيش بالفكر الذي يعتقده الآخرون، ولا تجعل الضوضاء لأصوات الآخرين تغرق صوتك الحقيقي بداخلك. والأهم من هذا كله، أن يكون لديك الشجاعة لتتبع قلبك وحدسك لتعلم ماذا تريد أن تكون، وتجعل كل شيء عدا هذا يحتل مرتبة أقل.

ويلخص جوبز سبب إبداعاته في هذه الحياة قائلاً بأن الشيء الذي جعله يستمر في إنتاجه الإبداعي هو أنه كان يحب ما يفعل.. ثم ينهي حديثه قائلاً بأن الموت أفضل اختراع من أجل استمرارية الحياة. إنه آلة التغيير التي تزيح القديم الذي لم يعد قادراً على العطاء، وتفسح الطريق للجديد الذي بيده التطوير والإضافة إلى هذه الحياة.

ومن المثير للانتباه أن هذا الرجل، الذي يعده البعض، أديسون القرن الحادي والعشرين ولد لأبوين غير شرعيين كانا يدرسان في جامعة ويسكونسون، ثم سلماه للحضانة لأنه جاء فجأة. ووفقا لجوبز، جاء إلى الحاضنين اتصال بأنه جاءنا طفل غير متوقع هل تريدون تبنيه؟ فقالوا بالتأكيد.. وهكذا كانت بدايتي في الحياة. غير أن هذا الطفل الذي جاء من أبويين غير شرعيين هو الذي اخترع الحاسوب الشخصي الذي لا يكاد يخلو أي منزل منه، والماوس أو الفأرة والتي يستخدمها جميع مستخدمي الحاسوب، و الآي بود، (2001) المشغل الصوتي الذي سحب البساط من سوني ووك مان، والآي فون الذي كان أول هاتف يحتوي على إنترنت وهاتف، وحاسوب شخصي باستخدام تقنية اللمس (2007)، ثم أخيراً الآي باد (2010) والذي حل جهازاً يبسط الحاسوب ويجعله آلة من السهل التنقل بها دون أي عناء.

إنه رجل فلسف الموت كوسيلة للحياة فجعل حياة البشر أكثر سهولة وجمالاً.