هارفارد (32 مليار دولار)، ستانفوورد (16 مليار دولار)، وإم أي تي (10 مليارات دولار)، جامعات أميركية تجتمع ليس فقط في مستوياتها العلمية المتميزة سواء في مخرجاتها الطلابية أو بحوثها أو منتجاتها أو مخترعاتها العلمية؛ ولكنها تتماثل في عامل ومحرك أساسي، ذلك أنها قامت على أوقاف تم تنميتها داخلياً أو من خلال هبات من رجال الأعمال والأغنياء والخريجين السابقين، أسلوب تمويلي يضمن لهذه الجامعات الاستمرار والإنتاجية والإبداع، كما يقلل هذا الأسلوب من مخاطر الاعتماد على التمويل الحكومي والذي يتسم بعدم الثبات ويعتمد في حجمه على الموارد المتاحة وتغير الأولويات من سنة إلى أخرى، وخصوصاً في دول تعتمد اقتصادياتها على موارد متذبذبة الأسعار والطلب (النفط). هكذا عملت الجامعات الغربية العريقة وما زالت، وهكذا تفوقت وما زالت، وهكذا ضمنت الاستمرار والاستقرار المالي بشكل عملي وبمخاطر جداً منخفضة.

في المملكة، كانت الجامعات السعودية تعتمد ـ وخصوصاً الحكومية منها ونوعاً ما الخاصة كذلك ـ على الدعم الحكومي، وذلك من خلال ما يخصص لها من ميزانيات سنوية لكل جامعة على حدة، إضافة إلى ما تقدمه وزارة التعليم العالي من تمويل لبعض مشاريع وأبحاث الجامعات، الأمر الذي أدى إلى ارتباط واعتماد التطوير والإنجازات في الجامعات السعودية على ما يخصص لها من مبالغ مالية، فعند وجود طفرة كما هو الحال الآن، نرى توسعاً في مشاريع وأنشطة الجامعات والمخطط لها قبل سنوات، وأما إذا كان هناك انخفاض في المخصصات المالية للجامعات نتيجة هبوط في إيرادات النفط وإعادة ترتيب الأولويات؛ عندها تتوقف النشاطات والمشاريع والأبحاث الجامعية كما حدث في فترات سابقة عندما تم تقليص أو وقف الصرف على الأبحاث العلمية.

خلال السنوات الخمس الأخيرة ومن خلال استثمار جزء من الفوائض المالية للدولة، قامت وزارة التعليم العالي والجامعات السعودية بحراك نوعي وكمي تاريخي، حراك وصل إلى جميع مناطق المملكة من خلال إنشاء جامعات جديدة في كل منطقة مثل حائل وجيزان، حراك أعاد بلورة وصنع الإنسان السعودي من خلال توسيع دائرة الابتعاث الخارجي على أوسع أبوابه، وذلك من خلال برنامج خادم الحرمين للابتعاث الخارجي والذي شمل حتى تاريخه أكثر من (100) ألف طالب وطالبة، حراك نتج عنه تحسين للوضع المالي لأعضاء هيئة التدريس – وهو مستحق – حراك أثمر عن تخصيص مبالغ عالية لإنشاء مراكز بحثية في الجامعات السعودية، كل هذا وغيره من الأنشطة والمشاريع التي تصب في بناء الإنسان السعودي - الاستثمار الأمثل والحقيقي لأي دولة – كانت نتيجة لدعم وتوجيه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله وبعمل دؤوب ومتابعة مستمرة وسياسة داعمة ومنفتحة للتطوير لمعالي وزير التعليم العالي الدكتور خالد العنقري وفقه الله، وبمشاركة زملائه نائب الوزير والوكلاء ومديري الجامعات.

بعد هذه السنوات من العمل الدؤوب والجهود المتراكمة، قد يكون من المناسب والعملي القيام أولاً، بمراجعة استراتيجية (Strategy Pose) لما تم إنجازه مقارنة بما خطط له، وتحديد مؤشرات أداء شاملة وإجمالية لمشاريع التعليم العالي والجامعات، وتحديد المعوقات التنظيمية والمالية وكيفية التعامل معها، كل هذا من أجل ضرورة استغلال الفرصة التاريخية المتاحة حالياً – توفر مخصصات مالية غير مسبوقة للتعليم العالي ـ وثانياً، وضع استراتيجية للتعامل مع التوسعات والمشاريع الجامعية الحالية من حيث ضمان توفير تمويل كاف ومستمر لها، بعيداً عن الاعتماد الكلي على المخصصات المالية الحكومية عالية التذبذب.

ولتوفير وضمان تمويل مستمر وثابت للجامعات، هناك عدة طرق تمويلية يمكن للجامعات استخدامها ومن أهمها الهبات والوقف.

وبدلاً من الحديث عما قامت به هارفرد وكيف نمت وقفها الاستثماري إلى أكثر من (32) مليارا، يمكن لنا استعراض تجربة جامعة الملك سعود في كيفية استثمارها وإدارتها للهبات المالية أو الاستثمارات من القطاع الخاص في الجامعة، فقد قامت الجامعة بالاستفادة من أراضي الجامعة البيضاء من خلال بناء مشاريع استثمارية ذات جدوى اقتصادية عالية، استثمارات بالمليارات شملت إنشاء مجمع للصناعات والابتكارات التقنية (وادي الرياض للتقنية) مع مشاركة فاعلة من القطاع الخاص مثل شركة سابك، كما يتم العمل على إنشاء فندق استثماري وبمشاركة القطاع الخاص في الإدارة والتشغيل، إضافة إلى عدد كبير من كراسي البحث العلمي الممولة من القطاع الخاص أو من بعض الشخصيات، كل هذا وغيره من المبادرات الاستثمارية تعكس إدراك ووعي ورؤية قيادة جامعة الملك سعود الممثلة في معالي الدكتور عبدالله العثمان وإدارة الجامعة ومنسوبيها في ضرورة توفير قنوات تمويلية لأنشطة ومشاريع الجامعة في المستقبل، وهي خطوة ينبغي لنا أن نباركها أولاً، ثم ندعمها ثانياً.

ما زالت فكرة ومشروع تمويل الجامعات من خلال الوقف والهبات جديدة نسبياً في المملكة وتتطلب الدراسة والمراجعة والتقييم، مع الاستفادة من خبرات من سبقونا، وهذه البداية الاستثنائية من جامعة الملك سعود في تبني مثل هذه المبادرة تستحق الدعم والمساندة من المؤسسات الحكومية وخصوصاً وزارة التعليم العالي ووزارة المالية. وحتى يمكن تعظيم المنافع من هذه التجربة الرائدة، فإننا نقترح العمل على ما يلي:

1. قيام وزارة التعليم العالي بتخصيص فريق عمل لدراسة طرق تمويل الجامعات وتقديم توصيات تساعد الدولة والمجتمع في دعم مسيرة التعليم العالي.

2. تسويق وتقديم فكرة تمويل الجامعات من خلال الهبات والوقف للمجتمع والقطاع الخاص بطريقة عملية وجاذبة.

3. إطلاق مؤتمر دولي حول تمويل الجامعات، مع عرض تجارب دولية وتجارب محلية.

أما داخل جامعة الملك سعود، فتجربة الوقف ما زالت في بدايتها وما زال هناك الكثير للقيام به، وقد يكون أحدها إعادة تقييم ومراجعة وضع المشاريع الاستثمارية والأوقاف والمشاريع المشتركة وكيفية إدارتها وآلية مشاركة القطاع الخاص فيها.