من الذي لا يعجب بتلك الشخصيات التي قد تكون بيننا أو رحلت ممن كرسوا حياتهم لقضية نبيلة، وخصوصا عندما نجد أن تفانيهم لم يكن لنيل شهرة أو لجمع ثروة، بل لأنهم يؤمنون بأن قضيتهم عادلة وهامة لمجتمعاتهم، وأحيانا كثيرة للبشرية، سيدة منزل تحدد ساعتين من يومها تخيط ملابس للأيتام.. طالب يدور في الطرقات أيام الإجازة الأسبوعية لينظف الجدران من العبارات والرسومات المسيئة والملوثة للمنظر العام.. مجموعة من الشبان والشابات يحولون قواعد الجسور إلى لوحات فنية، أناس عاديون بأهداف سامية، تجعل منهم نبلاء.
ورغم ذلك يظل بيننا من يفكر بالفشل والتحديات، ويحسب ويقسم ويضرب ليتسلل إلى قلبه الخوف قبل أن يبدأ، ولكن الفشل ليس خطيئة وليس النهاية، إن الرغبة في الجلوس حيث وقعنا، ورفض النهوض والبدء من جديد؛ هو الخطيئة بعينها، ففي نهاية المطاف ليس النجاح سوى سلسلة من المحاولات المبنية على الفشل، نجاح نتوصل إليه بعد جهد دؤوب، وهنالك العديد من الأمثلة على هذه النوعية من المثابرة، قرأنا عنها في السير الذاتية، وفي كتب التاريخ، وفي كتب الأدب، إن عظمة الحياة تكمن في تكريسها لقضية نبيلة، لا يهم إن لم تصل للهدف، أو لم تنتصر أو تتمكن من إجراء التغيير الذي تنشده، لأن العقول الصغيرة هي التي تركز على الفوز، لندع المجال للعقول أن تنطلق لتفكر بعمق وبنبل القضية، كي نقف على نبع الحياة لا هامشها، مستندين بالطبع على المبادئ السامية، مجهزين برؤى واسعة قابلة للتكيف والتغيير.
تتحدث إحدى الأساطير الهندية القديمة، عن زوج من الطيور قاما ببناء عش على شاطئ البحر، على مقربة من الأمواج، وكانت لديهما ثلاث بيضات صغيرة وجميلة في العش، وكان البيض في بداية مرحلة التفقيس، وفي أحد الأيام حين كانا يجمعان الأشياء الناعمة المنتشرة على الشط من أجل إضافتها للعش؛ جاءت موجة كبيرة من البحر، ودخلت إلى الشط ووصلت إلى الكثبان حيث بنيا عشهما، وبضربة واحدة ابتلعت العش وسحبته معها ثانية إلى البحر؛ بيضاً وقشاً وخيطان، وعند عودة الطائرين اكتشفا اختفاء صغارهما ولم يجدا سوى رغوة بيضاء، ولم يسمعا سوى غمغمة البحر، ليزيد من الفجيعة والقهر، هنا حلقا على حافة الماء، وطالبا البحر بإعادة العش، ولكن البحر استمر برمي الأمواج وسحبها دون إعطاء أي إجابة، هنا قالا: "لم يكن للبحر حق في أخذ ما لا ينتمي إليه، يجب أن يرد ما أخذه منا، وعليه يجب إفراغ البحر من مياهه، حتى نستعيد ما سلبه"، ثم طارا، وبدأ الأب أولا بإحضار عود ناشف مفرغ، وعاد به إلى البحر ليلتقط قطرات من مياه البحر ويعود بها إلى الشط، فيهز قطرات الماء لتسقط على الشاطئ، ثم يعود إلى البحر ثانية، واستمر في هذه العملية، ذهابا وإيابا، وتحليقا إلى البحر، وغمسا وتجريفا، وتحليقا مرة أخرى إلى الشط، وهزا للمياه لتسقط على الأرض، إلى أن تعب، فسلم المهمة إلى الأم كي يذهب ويحضر بعض الطعام، وخلال كل ذلك لم ينظر الطائران إلى البحر ولو مرة واحدة ليقيسا عمقه أو حجمه، بل كان جل تركيزهما على المهمة في متناول اليد، وبعد مرور يوم من هذا العمل الشاق والمضني، حدث أن مر حكيم كان يتجول في الجوار، وراقب باندهاش وحيرة ما كانا يقومان به، فتوقف وخاطبهما قائلا: "ماذا تفعلان يا صغيريّ؟"، فرد الطير الأب: "يا حكيم نحن نعمل على تفريغ البحر من مياهه"، اتسعت عيون الحكيم، فحدثته الأم عما فعله البحر بعشهما وبصغارهما، وعن عزمهما على استعادة ما سرق منهما بتفريغ البحر، وبهذا طلبا منه أن يدعو لهما وانطلقا ليكملا عملهما، ذهل من عظمة روح هذين الطائرين الصغيرين، وطالب من البحر إعادة تلك الموجة التي اخذت العش والبيض، فاستجاب وأعاد الموجة التي وضعت ما أخذته على الشط، حيث كان وكما كان.
المغزى الذي أريد أن أصل إليه من القصة كلها، هو ألا ننظر إلى حجم أو عمق القضية، يكفي إيماننا بأنها سامية ونبيلة، ولنتكل على الله ثم نعمل على حلها أو تحقيقها، يكفي الإيمان والمثابرة مع النشاط المتفاني، فمارتن لوثر كنج لم ينظر للعمق بل إلى الحلم السامي، وسعى، والأم تيريزا لم تحسب مكسبا أو تنتظر جوائز غير من خالقها، ولم يُرهب غاندي جنود أو سلاح أمام إيمانه بقوة السلام، لنعمل على تحديد هدف سام، لا أقول كبيرا أو ضخما ولكن سام، ولنعمل على تحقيقه، قد لا نصل وقد يكمل الطريق من سيأتي بعدنا، ولكن لنجعل من حياتنا بعدا ساميا نبيلا في خدمة مجتمعاتنا، بلداننا، أمتنا.. بل البشرية جمعاء، لم لا؟! فلا يحدنا سوى خيالنا وإرادتنا، وقبل كل ذلك لنتخل عن مظاهر اليأس ولنتسلح بإيماننا.