سؤال الديموقراطية سؤال ساخن اليوم، ليس فقط في الساحة العربية الملتهبة بنضال الملايين من أجل الديموقراطية، بل حتى في عقر دار الديموقراطيات العتيدة. في الغرب اليوم يعتقد الكثيرون أن الديموقراطية في أزمة. أزمة تأخذ تعبيراتها الأكثر وضوحا في الأزمة الاقتصادية الحالية ولكنها أيضا تمتد إلى إشكال التواصل بين الناس في مجتمعات تنضح تعددية واختلافا بدون قدرة موازية في التواصل والتشارك. خصصت مجلة تيلوس الأمريكية عدديها الأخيرين لنقاش قضية الديموقراطية مستكتبة عددا من أهم الأسماء في الفضاء الفكري الغربي. نقطة الاتفاق بين المشاركين تكمن في الإقرار بأزمة الديموقراطية الغربية لعدة أسباب من أهمها انحسار الفضاء السياسي وتمدد الفضاء الاقتصادي. لا تتضح هذه الصورة فقط من خلال تأثير اللوبيات المالية على صانع القرار السياسي (الشعب وممثل الشعب) بل تصل إلى أن النظرية السياسية أصبحت تنتج بأدوات اقتصادية في عالم يتعولم فيه النظام الاقتصادي ويبقى النظام السياسي محدودا في حدوده الجغرافية الضيقة مما يجعله أقل حيلة وقدرة على التأثير.

في المقابل، السؤال العربي حول الديموقراطية مختلف عن أي نقاش آخر باعتبار أنه نقاش حول الديموقراطية في فضاء ضد ديموقراطي. ما تحقق حتى الآن، من خلال الربيع العربي هو فتح المجال لاحتمال خلق حالة ديموقراطية فقط، احتمال رحلة للديموقراطية. الربيع العربي بدأ مع دخول الإنترنت والقنوات الفضائية ووسائل الاتصال الحديثة للبلدان العربية. بدأ الربيع مع توفر إمكانية التواصل بين الناس خارج قنوات الاستبداد التقليدية. الديموقراطية، كما يقول جون ديوي، في جوهرها عملية تواصل حرة. وسائل الاتصال الحديثة كسرت معادلة الاستبداد والتي تتلخص في "حجب التواصل". في عصر ما قبل ثورة الاتصالات كان حجب التواصل يتم من خلال إغلاق الفضاء العام وهو المجال المعنوي والحسي المشترك الذي يمكن أن يلتقي فيه الناس للتواصل، من خلال الحوار والنقاش في قضايا الشأن العام. هذا الفضاء كان مغلقا بالكامل من خلال سيطرة الحزب الواحد على الدولة من جهة وامتداد سلطة هذه الدولة إلى مؤسسات المجتمع المدني من جهة أخرى. كلما امتدت الدولة انحسر المجتمع والأفراد. انحسار المجتمع والأفراد يعني انعزالهم عن بعضهم البعض أيضا. التعليم هو إمكانية تواصل تم تحويله من قبل دولة الحزب الواحد إلى مساحة عزل من خلال تحويله إلى تعليم لا واقعي. تعليم لا يسعى لتعليم الطالب كيف يحل مشاكله بقدر ما يسعى إلى نحت شخصية تابعة للنظام الذي يقدم نفسه على أنه الحل لكل المشاكل. الإعلام وهو إمكانية أخرى للتواصل تم تحويله إلى برنامج يومي منظم لقطع التواصل من خلال تقديم منظور واحد لكل شيء يحمل في داخله مكافحة شرسة لأي منظور آخر، أو بالأحرى يحمل في داخله دعوى جذرية لانتفاء أي اختلاف طبيعي.

ثورة الاتصال فتحت مجالا جديدا غير قابل للاحتكار، نظاما متعددا ومتسعا وفرديا إلى حد مفاجئ يوما بعد يوم. في داخل هذا المجال يدخل النظام السياسي كلاعب ضمن عدة لاعبين وهو هنا سيفشل بالتأكيد باعتبار أنه مصمم للعب لعبة اللاعب الواحد فقط. مع هذا المجال الجديد بدأت إمكانية الديموقراطية والربيع العربي. أي بدأت إمكانية تواصل حر بين الأفراد أنتج بشكل طبيعي وعيا بمفهوم الفرد والمجتمع والحقوق والواجبات. أو بالأصح أنتج وعيا جديدا يميز بين الشعب والدولة والحكومة من خلال منظومة الحقوق والواجبات والعقد الاجتماعي الأول. من المهم التنويه هنا إلى أن وصف التواصل الجديد في الدول العربية مع عصر التقنية الحديث بأنه تواصل "حر" هو وصف نسبي مقارنة بالحالة السابقة لعصر التقنية. ولذا فهو تواصل أكثر حرية وإن بقي تواصلا خطرا ولكن خطورته تنخفض تدريجيا لنصل مع الربيع العربي إلى أعلى مستوى من حرية التواصل بين الأفراد والجماعات على مدى كل التاريخ العربي. ورغم هذا الوصف المفرط إلا أن المستوى المتوافر لا يزال لا يمثل سوى إمكان بسيط لبدء مرحلة ديموقراطية حقيقية.

الديموقراطية برنامج عمل يومي، ومن الطبيعي أن تكون موضوعا مستمرا للسؤال. الديموقراطية برنامج تغيير مستقر غير ثابت، وأكبر الأخطار عليها هو خطر الثبات والجمود. التواصل هو جوهر هذه العملية والمجال العام هو مكان ولادة هذه العملية ومنبع تخصيبها باستمرار. البشر لا يحتاجون إلى أي شيء ليتنافروا ويتوجسوا من بعضهم ويخافوا، فقط بعدهم عن بعضهم كفيل بهذا. في المقابل يحتاج الناس للتواصل لكي يتعارفوا ويكتشف كل منهم الآخر. التواصل الحر هو طريق التعاون والتفاهم والعقلانية. في المقابل يجعل الخوف التواصل عملا محفوفا بالمخاطر، بل مشبوها وعنيفا ومَرَضيّا.

حالة التواصل الحر هذه هي التي يمكن أن تمثل رحم التغيير الثقافي والاجتماعي الديموقراطي. ليس على المستوى السياسي فقط، بل على مستويات أعمق في العلاقات الإنسانية والعلوم الإنسانية، بل حتى على مستوى اللغة ذاتها. اللغة هي انعكاس لطبيعة العلاقة بين الأشياء والناس والمعاني. في حالة ما قبل الديموقراطية تحضر اللغة كحاجز دون التواصل رغم أنها أداة التواصل. الألفاظ وسياق التفكير محملة بعنف كفيل بقطع أي إمكان مشاركة وتعاون وتعرّف. اللغة في حالة ما قبل الديموقراطية تحجب الناس أكثر مما تظهرهم. لاحظ كم يبدو الناس متشابهين في الفضاءات اللاديموقراطية، كم يبدون مكررين ومستنسخين. الإنسان يظهر في تميزه واختلافه وتنوعه ويختفي في تشابهه وتكراريته واستنساخه. لغة الاختلاف والتنوع هي لغة الديموقراطية وهي كفيلة بحمل هذه القيم إلى خطابات العلوم والتربية والفن. في ساحة القصبة في تونس وفي ميدان التحرير في مصر واليمن وفي الزاوية في ليبيا وتجمعات الثوار السوريين يمكن أن تولد لغة الديموقراطية العربية، لغة التواصل لا لغة الانقطاع.