هناك طموح وإرادة كبيرة من خادم الحرمين الشريفين لتطوير مرفق القضاء وإعادة تأهيله بشكل يتواءم مع متطلبات العصر، وقد خصص حفظه الله ميزانيات كبيرة لأجل ذلك، وهو ما تعكف عليه حاليا جميع الأجهزة المرتبطة بالقضاء، وعلى رأسها المجلس الأعلى للقضاء برئاسة سماحة الشيخ صالح بن حميد سلمه الله صاحب التواضع والخلق الحسن. ولا شك لدي أن أصحاب الفضيلة القضاة قد قاموا وما زالوا في طور التطوير والهيكلة لهذا المرفق الكبير.

هناك كثير من النقاط التي تحتاج إلى بحث في هذا الميدان، إلا أنني سأناقش أحد أهم جوانب هذا الموضوع، من خلال آلية ومعايير اختيار القاضي، والتي هي ربما من أهم اللبِنَات نحو تقويم وتطوير القضاء. وأعرف أن أصحاب الفضيلة في المجلس الأعلى للقضاء يقومون حاليا بوضع آلية جيدة في هذا المقام، إلا أنها طالما لم تنشر فسأتحدث في هذا الموضوع باختصار.

للأسف أنه حتى الآن ليست واضحة تلك المعايير التي من خلالها يتم اختيار القاضي، إلا أنه يشترط له الحصول على شهادة البكالوريوس في الشريعة من خلال ما نص عليه نظام القضاء، بينما نجد أنه من غير المعروف ما هي المعايير الأخرى التي من خلالها يتم اختيار القاضي! بل حتى الجهة المختصة (اللجنة) والتي من خلالها يتم اختيار القضاة غير مُسمّاة، وليس لها موقع أو مكان يمكن من خلاله التواصل معها!

على سبيل المثال؛ في إنجلترا -بحكم دراستي هناك- توجد جهة معينة تسمى لجنة التعيينات القضائية (Judicial Appointments Commission (JAC)) -وهي جهة مستقلة عن الجهاز القضائي- تُعنى بهذا الموضوع، ومن ثمّ يصادق عليها الشخص الأعلى في الجهاز القضائي والثاني في قوة التوقيع في الدولة (The Lord Chancellor)، ويوجد موقع لهذه اللجنة على الإنترنت ويمكن التواصل من خلاله، بالإضافة إلى أن أي مواطن بريطاني أو أيرلندي أو من دول الكومنوولث يحق له أن يتقدم ليصبح قاضيا، مما يحد من سلطة اللجنة في التحيّز لصالح جهة أو فئة معينة. كما أن النظام يكفل لأي مواطن خاصة لمن يرغب الترشّح كي يصبح قاضيا؛ بأن يتقدم ليراقب أو ينظر في عمل القاضي والمحكمة من خلال (Judicial work shadowing scheme) كي يطّلع عن قرب ويُسهّل عملية تقييم وفهم آلية وطريقة عمل القاضي والمحكمة، كما أن المعايير العامة لاختيار القاضي حُدّدت في خمسة أشياء وهي: القدرات العقلية، السلامة والنزاهة الشخصية، القدرة على التعامل والتفاهم بشكل عادل، قدرات التواصل والقيادة للآخرين، الكفاءة التخصصية. ويتم اختبار هذه القدرات من خلال اختبار تحريري وعملي، ومن خلال المقابلة الشخصية أيضا. كما أن أعضاء تلك اللجنة ليسوا جميعا من القضاة، بل فيها أكاديميون ومحامون ومختصون آخرون أكثر من النصف، حيث إن القضاء شأن يهم الجميع، وليس بالضرورة أن يكون قاضيا. وتوجد جهة أخرى (Judicial Appointments and Conduct Ombudsman) تُعنى بمراقبة ودراسة الشكاوى في عمل اللجنة السابقة لضمان سلامة ونزاهة اختيار القضاة.

ومن أهم الملاحظات على آلية اختيار القاضي لدينا بنظري؛ أنه يتم اختياره من الطلبة الذين ليس لهم ممارسة أو خبرة في الميدان القضائي أو القانوني، وفي الواقع يتم تعيينه بعد أن لازم قاضيا بشكل عشوائي وغير واضح المعالم (حيث لا يوجد لائحة تحدد مهام وسلطات الملازم بشكل محدد) مدة قصيرة وغير محددة أيضا، وهناك احتمال أن يصبح ذلك الشاب القاضي الجديد وحيدا في المحكمة التي تمّ تعيينه فيها! وربما لا يتجاوز سِنّه 25 سنة! بينما يشترط النظام للمحامي أن يمارس المهنة مدة أربع سنوات لمن يحمل البكالوريوس! ولا أعتقد أن هذا مناسب إطلاقا، خاصة مع ضعف تنظيم القضاء التخصصي، حيث قد يحكم القاضي ربما في جميع أو أغلب أبواب الفقه في نفس الوقت، مما يستوجب أن يكون القاضي مؤهلا تأهيلا شاملا وقويا، وهو مهما كان لن يستطيع أن يُلمّ بكل تلك الأبواب بنظري.

كان من المفترض في النظام القضائي الجديد أن يُعزز قدرة القاضي من خلال عدة أمور، ومن أهمها:

1- تعزيز وتنويع معاوني القضاة، الذين يُصبحون مستقبلا ـ بعد ممارسة لمدة معينة ـ مؤهلين لترقيتهم قضاةً.

2- تخصيص القضاء أكثر، بمعنى استحداث محاكم متخصصة أكثر، مما يجعل القضاة فيها أكثر فعالية لتخصصهم في مجال أدق.

3- العمل المكثف في وضع اللوائح والتنظيمات.

4- الأمر الأخير والأهم، وهو اعتماد آلية لأجل تخفيف عدم الوضوح في النظام القضائي المعتمِد على الفقه الإسلامي، من خلال اعتماد التقنين للشريعة ـ وهو الحل المفضل بنظري ـ أو اعتماد السوابق (وهو غير محبذ كونها ستصبح نظاما ملزما وهي لا تمثل إلا رأي ذلك القاضي أو اللجنة القضائية مما قد يكون فيها قصور كبير، بخلاف ما هو الحاصل في الدول التي تعمل بمثل هذا النظام حيث توجد آلية أكثر دقة وفعالية لا تتواءم مع وضعنا وربما تكون مناقشة هذا الموضوع في مقال مستقل بإذن الله).

هذه مناقشة مقتَضَبَة، لا أدعي الكمال فيها، ولا أنتقص من جهد أصحاب الفضيلة القضاة والمستشارين الذين عملوا ليلا ونهارا لأجل الوصول إلى أفضل النتائج في تطوير القضاء، إلا أنني أرجو المساهمة في هذا المجال، راجيا الأجر والمثوبة من الله تعالى، والله الموفق قبل وبعد كل شيء.