مرض التأله، هو مرض نفسي عضال، يصيب المرء كأعلى درجات الغرور، وهو مرض نفسي معروف في الغرب، باسم (Goddes Diseases)، ويولونه هناك، أهمية خاصة، لكونه مرضا خطيرا، قد يدمر المصاب به من حوله، سواء وعى ذلك أم لم يع. فالمصاب بمرض جسدي، يتألم هو نفسه؛ أما الخطورة في المصاب بمرض نفسي، فيتألم من مرضه من هم حوله، لا هو، والأخطر عندما يتلذذ المريض نفسيا بتألمهم. ولهذا أصبحت بعض الأمراض النفسية مؤذية للمجتمعات أكثر من إيذائها للمصابين بها، وعليه تم أخذ الاحتياطات اللازمة علاجياً ونظامياً وقانونياً، لدرء ضرر المرضى نفسيا عمن حولهم، وحماية المجتمعات منهم.

إشكالية مرض التأله، أنه يصاب به الناجحون في حياتهم أكثر من غيرهم، وهم الناجحون عن جدارة، وفي معظم الأحيان الناجحون من غير جدارة، أي أن بعض الظروف الخاصة، ساعدتهم على الصعود والظهور، وهنا يختلط على المراقب التمييز الدقيق بين الناجحين بجدارة وبين الناجحين بغير جدارة. فمثلاً، لو أن سوق الأسهم لم ينهر لدينا، فإن كثيرا من البسطاء إن لم نقل السذج كانوا سيمتلكون مئات الملايين، إن لم نقل المليارات، ليس بجدارة منهم، ولكن بسبب ضربات حظ ومغامرات غير محسوبة، وسيتصرفون على أنهم رجال أعمال بارعون، وواجهات اجتماعية مرموقة، وقس على ذلك.

وكثير من السياسيين والوعاظ والرياضيين والفنانين، يصابون بمرض التأله، وقد لا ينجو منه بعض الأطباء والمهندسين. ولكن عندما يصاب به رياضي أو فنان، أو حتى طبيب أو مهندس، يكون التدمير عليهم شخصيا أكثر منه تدميرا اجتماعيا، ولكن الخطورة تكمن عندما يصاب به سياسي أو واعظ، حيث التدمير لا يكون شخصيا بالنسبة لهم، ولكنه تدمير اجتماعي، أي تدمير لما حولهم، ولمعان وتلذذ لهم.

وإذا لم يتم تشخيص مرض التأله، ورسم خطط علمية وعملية، لعلاجه، وأخذ الاحتياطات المناسبة لحصار انتشاره والحد منه، ثم القضاء عليه؛ فقد يتحول إلى مرض اجتماعي جماعي، ويصبح جزءا من شخصية المجتمع، بعد أن كان فرديا ومعزولا في المجتمع. وهنا تكمن الخطورة على المجتمع بأسره، حيث يصبح مرض التأله فيه صحة وميزة، وليس مرضا ونقيصة، ويشكك بإيمان وعقل كل من يتصدون له من الأصحاء، الواعين لخطورة هذا المرض النفسي العضال المدمر.

ذكر لي زميل دراسة ليبي، أن معمر القذافي في بداية توليه للسلطة، كان إنسانا بسيطا، يسكن في بيته البسيط، ويذهب للسوق بسيارته الشخصية المتواضعة، ليشتري أغراض بيته، مثله مثل أي مواطن. ولكن عندما طبل له الناس وزمروا، ووصفوه بعمر بن الخطاب، وصلاح الدين الأيوبي، وحتى وصل بعضهم، لوصفه بالمهدي المنتظر، والمخلص المرتجى، صدقهم، وغير من تصرفاته وأخذ يتصرف على أنه كذلك، لا يسأل عما يفعل، وبأنه قدر إلهي، مسير بإرادة إلهية، لا مخير، لإنقاذ شعبه وأمته كذلك.

وحسب رواية الزميل لشخصية القذافي، أن مرض التأله قد تلبسه لاحقاً، بعد توليه الحكم، لا قبله. وبعد حكم دام أكثر من أربعة عقود، جعل القذافي مرض التأله، سمة تميز في المجتمع الليبي، لا سمة مرضية؛ ولذلك فكثير من قيادات المعارضة الليبية الذين أسقطوا القذافي، يرددون بأن القذافي قد قتل؛ ولكن معضلتنا الكبرى، هي كيف نقتل الشخصية القذافية التي تلبست الكثيرين من الشعب الليبي؟

وقد يكون اكتشاف مرض التأله عند الزعامات السياسية أبسط بكثير من اكتشافها عند غير الزعامات السياسية وخاصة عند الرموز الدينية، التي ينظر إليها الناس بحسن نية. حيث قال الحكيم الفارسي أردشير، إن رجال السياسة، يمتلكون أجساد الناس، أما رجال الدين فيمتلكون قلوبهم. وهنا يجب التفريق بين عالم الدين والرمز الديني، فكل عالم دين هو رمز ديني؛ وليس كل رمز ديني هو عالم دين. فيمكن أن يصبح واعظ أو متلبس زي ديني ساذج بليد التفكير رمزا دينيا، بالنسبة للعامة، بسبب جرأته على الله والشرع، أو سلاطة لسانه، فيستميتون في كيل المديح والثناء عليه والدفاع عنه. وهنا يصاب المسكين، بمرض التأله النفسي العضال، زيادة على أمراضه وتشوهاته النفسية الكامنة في قعر نفسيته المتأزمة أصلاً. وهذا النوع من المرضى هم أشد فتكاً بالمجتمعات بعد الطغاة، إن لم يكونوا أعواناً لهم في التسلط والنبذ والإقصاء، سواء وعى الناس ذلك أم لم يعوا.

ونعرف الواعظ أو الداعية المتأله من غيره من الوعاظ والدعاة الطبيعيين، بأنه أكثر من يتجرأ على تكفير الآخرين المخالفين له، وإدخال هؤلاء النار وإخراج هؤلاء منها، وإصدار فتاوى متشددة تعارض وتناقض ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهلم جرا. ونعرفهم بتكسبهم الجشع من وراء مهنتهم هذه، فيتحولون زيادة على كونهم رموزا دينية إلى رموز اجتماعية وإعلامية ومالية كذلك. وهم لا يتعففون عن مهنة، حتى ولو كانت مهنة تحتاج لعلوم ومهارات خاصة، مثل الطب والطب النفسي، والسياسة، وعلم الاجتماع، وكذلك حتى علم التاريخ والآثار، والأدب والفن. فتجدهم في كل واد يهيمون، وفي كل مهنة يفتون، بلا خجل أو تردد.

حتى بدأ العامة يلجؤون إليهم لتفسير الغيب والمستقبل لهم، فجعلوا تفسير الأحلام وفك السحر وعلاج العين والتنجيم مهارة لا يحسنها غيرهم، زيادة على تجرؤهم على علوم غيرهم. وأصبحت تجارة الشعوذة تضخ فيها المليارات تلو المليارات سنوياً. وهكذا أمرضوا المجتمع معهم، وأصبح كثير من العامة إما مريضا نفسيا وإما معالجا نفسيا، يمارس هذه الشعوذات على أنها جزء من علوم الدين، لا يحسنها إلا من فتح الله على بصيرتهم، ونفث في قلوبهم من روحه العالمة. فتفشت بين الناس الجراءة في الحكم على ما في قلوب الغير، حتى ولو كانوا لم يشاهدوهم في حياتهم، ناهيك عن أن يعاشروهم، وتجرؤوا على إدخال هذا الجنة وإدخال هذا النار، ومعرفة الغيب، ومن، من العائلة سحر الآخر، ومن، من الأصدقاء والمعارف عان الآخر، وهكذا أدخل المتألهون الكبار وتبعهم المتألهون الصغار وصغار الصغار من المتألهين المجتمع في حرب شعوذة أهلية، إن لم نقل عائلية، لا تبقي ولا تذر.

إذاً فمرض التأله، يصاب به كل من تجرأ وجير، لنفسه صفة من صفات الله سبحانه وتعالى التي اختص بها نفسه، مثل علم الغيب، وإدخال هذا الجنة وذاك النار، واعتبار ما جاء في الشرع المطهر من أحكام، غير كاف لإصلاح المجتمع، فيستدرك عليها بالتشدد والتحرز. وكذلك تفسير الغيبيات، وتوقع الأحداث، حتى السياسية منها، عن طريق تفسير الأحلام وفك طلاسم الشعوذة، وغيرها. وخاصة عندما يمارس هذه الأفعال والأعمال، ليأكل بها أموال الناس بالباطل. ومن أهم صفات المتأله البارزة، هي ممارسته هو لما ينهى هو عنه، حيث هو في قرارة نفسه، لا يسأل عما يفعل، كغيره من بقية البشر.