مع بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر ببريطانيا، حدث في لندن طفرة اقتصادية أدت إلى موجة هائلة من النمو السكاني، وأصبحت من كبريات مدن العالم. ولأن الوضع الاقتصادي لم يستوعب هذا الانفجار السكاني، بدأ منسوب البطالة يرتفع بين السكان، ومن ثم بدأت السرقات والمخدرات والجرائم في الانتشار، إلى درجة أن الدولة اضطرت إلى استئجار سفن وتحويلها إلى عنابر سجون، من كثرة المجرمين، الذين كان معظمهم ضحية للبطالة. ثم امتلأت هذه السفن أيضا، وبدؤوا في إرسال المجرمين إلى أستراليا، لأنها كانت أقصى مكان في العالم.

والمملكة تشهد حاليا حالة من النمو السكاني المرتفع، مقارنة ببقية دول العالم.

فوفقا لبعض الإحصائيات، تحتل المملكة من حيث النمو السكاني المرتبة 40 عالميا وفقا لتقرير صادر من الأمم المتحدة، بمعدل نمو يبلغ 2.24 %، ومرتبة 43 وفقا لتقرير صادر من البنك الدولي، بمعدل نمو يبلغ 2.33%؛ وهذا يعني أننا نأتي تقريبا في الربع الأول بين دول العالم من حيث النمو السكاني.

هذا النمو السريع سكانيا ربما أدى إلى جرائم جراء الفقر والبطالة. ويتأكد هذا الواقع، مع الدول الريعية المعتمدة بشكل كبير على النفط كمصدر دخل لها، إذ كلما زاد عدد السكان قل ريع الفرد من النفط. يدل على هذا أننا حين نستعرض دخل الدول المصدرة للنفط، نجد أكثرها ثراء ودخلا للفرد، أقلها سكانا.

كما أن التكاثر السكاني الزائد يعد مظهرا من مظاهر دول العالم النامية المتسمة بالتخلف الحضاري، إذ تتموضع أكثر الدول فقرا ومشاكل كأفغانستان وبعض الدول الأفريقية مراكز متقدمة في قائمة دول العالم من حيث النمو السكاني، بينما يأتي أكثرها تقدما ورفاهية اقتصادية كالولايات المتحدة واليابان وألمانيا في مراتب متأخرة. ويؤيد هذا دراسة مسحية للباحث بارو (1996) عن المؤثرات في النمو الاقتصادي لمئة دولة على مدى ثلاثين عاما، من عام 1960 وحتى عام 1990. توصل الباحث إلى مجموعة من النتائج من أهمها أن انخفاض التزايد السكاني من أهم العوامل المهمة المؤثرة في النمو والازدهار الاقتصادي.

ومن الإشكاليات التي تواجهنا في المملكة خصوصا دعوة البعض إلى التكاثر السكاني معتمدا في ذلك على الآية الكريمة "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" أو الحديث الشريف الذي أخرجه النسائي وأبو داود وأحمد وصححه ابن حجر "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم". وليس من شك في أن التكاثر السكاني منذ القدم وإلى وقت قريب قبل الثورة الصناعية والمدنية كان مطلبا وضرورة، ليس للأسرة وحسب وإنما للمجتمع بصورة عامة، إذ كان الطفل منذ نعومة أظفاره يشكل دعما اقتصاديا لأهله عبر العمل معهم ومساعدتهم على أعباء الحياة. كما أن الجوائح الوبائية كالجدري والطاعون، إضافة إلى ارتفاع نسبة الوفيات بين المواليد، كانت تفتك بالناس قبل تقدم الخدمات الصحية، وتهدد بقاءهم، وليس لهم من سبيل لمكافحة الفناء والموت سوى الإكثار قدر ما يستطيعون من الأطفال. ويتذكر كبار السن ما كان يفعل الجدري حين يحل بقرية من خطف يطال أحيانا جميع أطفال الأسرة الواحدة. كما أن التكاثر في ذلك العصر كان يفيد الدولة عبر تكثير سواد الجيش أثناء الحروب ويساهم في إرساء قواعد أمنها واستقرارها. غير أن الموازين انقلبت في العصر المدني الحديث ليصبح التكاثر المنفلت عامل إضعاف وإرهاق للأسرة والمجتمع. فالطفل الذي كان يشكل مصدر دخل لوالديه أصبح عالة اقتصادية عليهما منذ ولادته إلى ما بعد تزويجه في بعض الأحيان. والوظيفة المفتوحة في الجيش في تلك العصور أصبحت محدودة ونادرة في المجتمع المدني الحديث. وبينما كانت الجيوش في عصر الخيل والسيف تقاس بعدد الرجال، أصبح العدد اليوم لا يعني كثيرا، فالطائرات أصبحت بلا طيار، وقنبلة ذرية واحد قادرة على نسف مدينة مكتظة بملايين البشر في بضع ثوان. وقد انتبه أحد الدعاة إلى هذه الإشكالية وذكر مثالا طريفا يقول فيه: الأميركي له طفلان، أحدهما مهندس والآخر طيار. ونحن لدى كل منا عشرة أطفال: واحد في الشارع، والثاني نائم، والثالث يأكل، والبقية يشربون الشاي ويلعبون البلوت!.

من المؤسف أن الخطاب الذي يحض على التكاثر غير المنضبط مازال يلقى رواجا بين شريحة واسعة من المجتمع، غير منتبهين إلى العواقب الكارثية التي قد يجرها هذا التضخم البشري على الأسرة والدولة. فهذا التكاثر الهائل سيسبب عاجلا أو آجلا نقصا في الخدمات التعلمية، والصحية، وأخيرا الوظيفية، وسيؤدي في نهاية المطاف إلى انخفاض ملموس في المستوى المعيشي الاقتصادي.

وعلى هذا فإن عامل (التكاثر السكاني) يعد عاملا أخطر من العامل الأول (العمالة)، إذ إننا نستطيع التحكم في العامل الأول وتغيير ديموجرافيته وفق إرادتنا لكننا لا نستطيع ذلك مع العامل الثاني. نستطيع تقليص العاملين من الخارج متى ما شئنا، لكننا لا نستطيع عمل شيء مع أعداد هائلة من أبنائنا العاطلين نتيجة للتكاثر السكاني المنفرط.