ما إن يتطرق الحديث عن جيزان حتى تداهمني حالة من الحذر المهيب. لأنني حينها في الواقع أشعر بتقزمي أمامها. جيزان بالنسبة إلي ليست كأيها مكان في هذا العالم. ولدت وترعرعت فيها وتربيت على عاداتها وتقاليدها. مقالي هذا ليس دفاعاً عن نبتة القات وإنما هو استنكار لوصف شريحة كبيرة من المواطنين بما لا يليق.

الجمعة الماضية، صدمت وأنا أقرأ في إحدى الصحف المحلية تقريراً عن نبتة القات وتعاطيه في منطقة جيزان. تضمن نقاطاً بدت لي أحياناً غير متجانسة، وكأن التقرير قد تم بطريقة القص واللصق أو القطعة. بمعنى أن يقوم عدد من المكلفين بمهام مختلفة ثم تخضع هذه القطع للتجميع والحشو. هذا الأسلوب في العمل الصحفي لا يدل على مهنية محترفة. بقدر دلالته على قلة الحيلة عند منفذيه. المثير للجدل هو أن يتضمن التقرير اتهاماً خطيراً (بالمثلية الجنسية) لدى 70% من السكان. لم يكن مبنياً على مرتكزات أو معطيات واضحة. وجاء وكأنه قد حُشر حشراً في الأمر. إذ لم يوضح ذلك التقرير أية آلية اتبعت للوصول إلى تلك النتيجة. وقد أُطلق على ذلك العبث المكون من 547 كلمة مسمى (دراسة). أحد الأصدقاء الأكاديميين قال لي: "للتوضيح فقط: في المجال الأكاديمي للدراسات البحثية، تعتمد البحوث والدراسات على مبدأ الفرضية وهي مجموعة تساؤلات عن ظاهرة - مشكلة - معينة، يقوم الباحث بصياغتها، ثم إثبات صحتها أو عدمها معتمداً على عدة مناهج في دراسته، ومستعيناً بأدوات بحثية في جمع معلوماته. عليه فالفرضيات عبارة عن نظريات بحثية تختلف نتائجها من باحث لآخر، حتى وإن كانت الظاهرة البحثية واحدة وفي منطقة دراسة أيضا واحدة، فلماذا؟ لأن العينات العشوائية التي يتم اختيارها للدراسة، تختلف من باحث لآخر، وبالتالي نتائجها تختلف في النهاية. فهي ليست قانوناً علمياً لا يقبل الجدل، كقانون نيوتن الذي خلُص إليه بالملاحظة". أمر مخجل بالفعل أن يحاول البعض احتقار عقولنا.

مقابل ذلك سأتحدث على عجل عن جيزان التي أهوى وأهلها.

تعد جيزان (كما أحب أن أكتبها وأسمعها بحكم مولدي ونشأتي فيها) منطقة مهمة في منمنمة خارطة المملكة. ويقطنها أكثر من 1.5 مليون نسمة. يتوزعون كل شبر من ترابها الطيب. ويمتاز أهلها بالطيبة والمسالمة وصفات العرب الأصيلين. لذلك تستحوذ جيزان وأهلها على قلبك حالما تحل بين ظهرانيهم، فتعشقهم دون قيد أو شرط. المجتمع الجيزاني مجتمع متدين بشكل معتدل يكاد يخلو من الغلو على كل الأصعدة. تنعدم (أو هكذا أزعم) التصرفات والتوجهات العنصرية والتصنيف المقيت. لذلك تنصهر وتذوب داخله كل الأجناس والأعراق بسهولة نتيجة هذه القوة التي يمتلكها كمجتمع إنساني. قبل سنوات جمعتني رحلة سفر مع الممثل الكوميدي السعودي (راشد الشمراني) من مدينة أبها نزولاً إلى جيزان بعد حضورنا سوية حفلة الفنان محمد عبده، لنستقر مع رفقة جميلة في منزل الشاعر عبدالرحمن موكلي بالظبية، تجاذبنا أطراف الحديث. قال: (أنا أحب جيزان وأهلها. لأنني أجد فيهما كل المعاني الإنسانية والرجولة الكريمة. قال: تخيل في جيزان تجد من يبادرك بإلقاء التحية والسلام حين يمر بجوارك وهو لا يعرفك حتى. فقط لأنه يشعر بمحبة ذلك في نفسه. في جيزان أشعر بتعايش غريب مع الناس والمكان وأفتقدها في أماكن أخرى). صديقي راشد قال كلاماً كثيراً ليس كمثله كلام عن جيزان وأهلها، لقد كان كلامه من صميم وصلب بنية وتربية وخُلق الإنسان الجيزاني. وجيزان المثقفة أنجبت على مر التاريخ أعلاماً ورموزاً ما زال أثرها ممتداً. واليوم عقد الجواهر الثقافية في جيزان ليس له نهاية، فحيثما وليت وجهك فثم قامة ثقافية أو علمية. ولطالما تميز الجيزانيون اجتماعياً على مستوى التماسك الأسري ونجاحاته، وأتقنوا بذكاء كيفية التعامل مع واقعهم. وقد أثبت ذلك الاستبيان الأخير عن معدل حالات الطلاق والتفكك الأسري بالمملكة، الذي حصلت فيه جيزان على المركز الأخير بنسبة بلغت (0.4% حالات طلاق تقابلها ثلاث حالات زواج وبنسبة 0.4% أيضاً). هذه النسبة الضئيلة من حالات الطلاق دليل دامغ على قوة ترابط الأسرة الجيزانية وإنسانها ومجتمعها. في جيزان ليس مستغرباً أن ترى الأب يتعامل مع أبنائه وبناته كصديق حميم جداً. فالأسرة في جيزان أنموذج حقيقي لبساطة الحياة الإنسانية بين الرجل والمرأة والأطفال والشباب والكهول. وحين يرسلون أبناءهم لما وراء البحار لطلب العلم. ينجح الأبناء في مهمة التعايش مع غربتهم وحالتهم المادية البسيطة مكيفين أنفسهم وحاصدين لأعلى الدرجات العلمية. لقد كنت شاهداً على فترةٍ زمنية صعبة مر بها أهالي جيزان قبل تأسيس جامعة جيزان، وجدتهم شباباً وشابات يقطعون المسافات للتحصيل العلمي الجامعي. وجدتهم يسكنون في الشقق الخارجية في حال لم يتوافر لهم السكن الجامعي. وجدتهم يشفقون على بعضهم حين تضيق عليهم الأرض بما رحبت، فيقتسمون الخبز والمال والمكان حين تتأخر مكافآت الجامعة الدراسية. وجدتهم شباباً بعقول رجالٍ حكماء. وجدت قبائل جيزان كلها تتعايش بعظمةٍ داخل شقق حولوها لقصور من الحب والرجولة. أروع من قصور فرساي والإليزيه. وجدتهم كما يحب ربنا ويرضى. هؤلاء هم أهل جيزان ومازالوا كذلك. أيها الأصدقاء القاطنون خارج جيزان أدعوكم ولو لمرة واحدة إلى زيارة جيزاني في بيته وستعرفون أية إنسانٍ هو، وأي نوع من الرجال يكون.