إذاً رحل أحمد باقر.. ببساطة موسيقاه وخفة مفرداته.. مات أبو الأغنية الكويتية وخازن مغارتها السرية التي "دوخت" العرب شجنا وأغاريد.

ما أحدثه باقر هو خلع الأغنية الكويتية من إطارها التقليدي وقوالبها الموسيقية الكلاسيكية إلى فضاء أوسع وتفاصيل أكثر, جعلها شابة مندفعة صادقة بلا مساحيق، بفتنة سحرية هفهف عليها نسيم الخليج, شيء قريب مما أحدثه سيد درويش بدايات القرن بالأغنية المصرية والعربية باختلافات جزئية.

بعد المرحلة التأسيسية خرج جيل السبعينات في الأغنية الكويتية متأثرا بأسلوب باقر في الموسيقى والكلمات, بساطة وسلاسة مثلت روحا جديدة سرعان ما تلقفها العرب وفرح بها الخليجيون, غير أن اعتزال عالية حسين، طالبة المعهد العالي للفنون الموسيقية، ترك في نفسه حزنا عميقا، إذ كانت حسين صوتا رائعا شديد الحساسية تخصص في المدائح وشعر المتصوفة, صوتا كأنما قدم من عمق التاريخ، عول عليه باقر ودعمه وقدمه، لكن الظروف السياسية والاجتماعية بداية الثمانينات كانت تسير نحو التوتر والطائفية والانغلاق، فضاق الفنان الحساس ومضى في عزلة لا يجيدها سواه، فأنتج سيمفونيات احتفظ بها لمن يأتي بعده، وقدم للتلفزيون أعمالا مميزة، غير أن المعهد العالي للفنون الموسيقية ظل مشروعه الأثير وصومعته التي لاذ بها عن كل الطنين الذي بدأ يغزو الأغنية الكويتية منتصف الثمانينات, جاء جيل هزيل التأهيل معتمدا على شللية ما تدفعه نحو الواجهة, احتج الفنان بصمت وغضب دونما كلام, عاقب الجميع بابتعاده، فخسرالفن و"دحدرت" المسائل واستعصى الإصلاح وذهبت الأمور باتجاه التسليع، ومضت القافلة يرافقها نباح كثير مزعج، وهكذا وكقدر أي مبدع حقيقي راحت أخباره تنأى وتتباعد.

تنكرت الصحافة وجحد تلاميذ المعهد العالي للفنون الموسيقية معلمهم المؤسس ونست المؤسسات كدأبها منجزه الضخم، بينما ظل تراثه يروح ويجيء بين قناة وأخرى كلما سمحت الظروف وعطفت عليه الذاكرة, وكعادة الموهوبين مات بلا ضجيج.. ورحل دون إزعاج مثل نسمة عابرة فوق صفحة الخليج, مثل "زهيرية" لبحار تاه في إثر لؤلؤة عصية لا تجيء.