بعد حادث الحريق المأساوي الذي تعرّضت له مجموعة من المعلمات والطالبات في مدارس "براعم الوطن"، رأينا كيف كانت ردود أفعال وتصريحات بعض الجهات الحكومية المختصة، وكذلك آراء بعض إدارات المدارس الأخرى، التي يمكن أن يقال عنها أنها فقط للدفاع والتهرّب من المسؤولية.

كما أن هذه التصريحات كشفت لنا مشكلة إدارية وتنظيمية، لا أبالغ إن وصفتها بالخطيرة جداً، وقد تكون أحد الأسباب الرئيسية لحوادث الأمن والسلامة في كثير من المرافق والمباني العامة، وهي مشكلة التنازع التنظيمي أو ما يسمى بتنازع الصلاحيات.

والمقصود بتنازع الصلاحيات هو تشابه أو تداخل المهام والواجبات بين أكثر من جهة أو مؤسسة، فمهام الحفاظ على الأمن والسلامة تشترك بها عدة إدارات في كثير من الجهات، ابتداء من إدارة المدرسة نفسها، إلى وزارة التربية والتعليم والدفاع المدني والأمانات.

فالمدارس خاضعة لإشراف وزارة التربية، ومن ضمن مهام هذا الإشراف متابعة وسائل الأمن والسلامة، والمدارس من مهامها تطبيق هذه الوسائل، ومن مهام الدفاع المدني التقييم الفني لها، أما الأمانات والبلديات فمهامها تتمثل في تصاريح البناء ووضع الاشتراطات الفنية لها والتي من ضمنها شروط الأمن والسلامة.

هذا باختصار شديد فيما يتعلق بالمهام المشتركة بين الجهات الحكومية والتي تهدف بشكل رئيسي إلى الحفاظ على الأمن والسلامة في المباني المدرسية، وبتقييم سريع لوضع هذه المدارس الذي قد يثير أكثر من علامة استفهام، نجد الآتي:

• كثير من المباني المدرسية سواء كانت حكومية أو أهلية هي في الأساس منازل سكنية وليست تعليمية، وبالتالي ترتفع فيها نسب مخاطر الحوادث.

• كثير من المدارس لا يوجد بها نظام الإنذار المبكر، بالرغم من وجود الأجهزة في بعضها ولكنها متعطلة، ويبدو أنها وضعت كديكور أو لتحقيق متطلبات شكلية للتعليمات، ناهيك عن عدم توافر مخارج للطوارئ.

• عدم توافر خطط الطوارئ، وفي حال توافرها فإنه لا يتم تطبيقها وتجريبها وبالتالي عدم تقييمها.

• وجود تمديدات كهربائية رديئة وغير مطابقة للمواصفات في بعض المباني المدرسية.

• ضعف التنسيق بين الجهات الحكومية ذات العلاقة.

• ضعف الوعي الاجتماعي بمخاطر الأمن والسلامة، وبالتالي عدم المبالاة وعدم الأخذ بالإجراءات الوقائية ، فتجري الأمور كما هي حتى تحدث الكوارث.

هذا بشكل عام ومختصر لواقع مباني المدارس من حيث الأمن والسلامة، والسؤال المطروح: ما الجهة المسؤولة عن الأمن والسلامة؟، فكما رأينا آنفاً فإن المهام مشتركة بين أكثر من جهة وبالتالي فإن المسؤوليات مشتركة أيضاً.

ولكن بسبب هذا التنازع التنظيمي استطاع البعض أن يهرب من المسؤولية ولا يقوم بمهامه المطلوبة منه بالشكل المنشود، فحال كل جهة يقول :"هذه المهمة من مسؤولية الجهة الفلانية لا دخل لنا بها، ويكفينا مخاطبتها حتى لا نتعرض للمساءلة"، والجهة الأخرى إما أن ترد أو تحفظ الموضوع بنفس السبب والحجة، وعليه تتعطل المهام ونفشل في تحقيق الأهداف، والغريب في الأمر أن الأدلة التنظيمية المعتمدة لهذه الجهات تتضمن هذه المهام وبالتالي فهي مسؤولة عن تأديتها، ولكن المشكلة تكمن في الخوف من تحمّل هذه المسؤولية!.

إن الحديث عن مشكلة الخوف من المسؤولية في الجهات الحكومية يصعب الإحاطة به، ولكن من المهم أن أشير إلى هذه المشكلة الموجودة في كثير من الجهات، من أصغر موظف حتى أكبر مدير، فالجميع يحاول الهروب من هذه المسؤولية وإيقاعها على الآخر حتى في صغائر المهام أو الأعمال، وفي الحقيقة لا أعلم أسباب ذلك، مع أن من صفات القائد الإداري الناجح تحمّل المسؤولية مهما كانت، ومن المهم جداً أن نفهم أيضاً أن المسؤولية لا تفوّض مهما كانت الأسباب.

وعلى كل حال، فإن الهروب من المسؤولية ـ في رأيي ـ يعد السبب الرئيس في تعطيل المهام المشتركة بين الجهات الحكومية، فكما رأينا في حادثة "براعم الوطن"، كيف أن كل جهة تحاول إلقاء اللوم والمسؤولية على الأخرى مستغلةً في ذلك تداخل وتشابك المهام.

قد يرى البعض أن ازدواجية المهام وتشابكها بين الجهات تعد دائماً مضيعة للجهد، ويتطلب الأمر أن يتم إعادة النظر في التنظيم الإداري لهذه الجهات، ولكن هناك ما يمكن أن يقال، إن تكرار الأعمال له فائدة تتمثل في تكثيف الجهود الإدارية وزيادتها، كما تستطيع هذه الجهات اكتشاف أخطاء بعضها البعض والاستفادة منها، لكن المشكلة تكمن في تعطيل الأعمال والمهام وخاصةً فيما يتعلق بصحة وأمن وسلامة الناس.

ومسألة الأمن والسلامة ليست هي الوحيدة التي تشترك فيها المهام وتتشابه فهناك مواضيع ومسائل كثيرة يصعب حصرها، فتخيلوا معي على سبيل المثال سلامة ومأمونية الغذاء والماء..برأيكم ما الجهة الحكومية المسؤولة عن ذلك لو حدث تلوث ما؟.

من الإنصاف القول إن الدولة أدركت سلبيات هذه المسألة، ولجأت إلى تشكيل اللجان المشتركة بين الجهات الحكومية، لأجل التنسيق التام فيما بينها، ولكن ما يؤخذ على هذه اللجان أنها تتعامل مع حالات ومواضيع معينة وتترك الحالات الأخرى، كما تتصف أيضاً بالبطء الشديد في تنفيذ أعمالها، وتأثيرها محدود، وقد أطلق عليها أحد علماء الإدارة عبارة العشب المؤذي في حديقة الحكومة.

لذا يرى بعض الباحثين أن تعطى صلاحيات أكثر للإمارة في كل منطقة ومن هذه الصلاحيات الإشراف الإداري والمالي على فروع الوزارات والمصالح الحكومية، بحيث يكون الإشراف الفني فقط من المراكز الرئيسية للوزارات ووفقاً لهذا المقترح، فإن كل فرع من الوزارات يرتبط تنظيمياً وإدارياً بإمارة المنطقة وليس بالوزارة ، وعليه يمكن التقليل من المشاكل التنسيقية بين الجهات الحكومية وذلك لارتباطها بجهة واحدة تكون تحت إشرافها، وبالتالي لا يكون لأحد حجة أو مبرر لتعطيل الأعمال والتهرّب من المسؤولية في حال تطبيق هذا المقترح.