ليس الإنسان من يحكم عالمه، فهو نفسه لا يعرف أيًّا من العوالم سيتحكم به. إنّ الناس لا تلاحظ هذا لأنهم موجودون تحت تأثير خيال وحدة "أناياتهم" وتكوينهم الذهني ولهذا سيظلون مُتبعين لكل ما يجدون فيه خلاصا وراحة لأناهم البشرية.

وهنا يعبّر الأميركي رايموند كورزويل. عن ثورة الثقافة المادية السائدة بالقول في كتاب شهير له إن التكنولوجيا والتقدّم العلمي ستتيحان للبشر خلال القرن الحالي التغلّب على نواقصهم البيولوجية، و"ترقية" عقولهم وأجسادهم عبر مزج التكنولوجيا بالبيولوجيا. ويتوقّع ـ مع تحفظنا ـ أنه خلال النصف الثاني من القرن الواحد والعشرين ستتمكّن التكنولوجيا من خلال مزيج من علم الروبوتات، علم الجينات والذكاء الاصطناعي، من تحقيق الحياة الأبدية فإنسان اليوم يعتبر نفسه الإنسان الأكثر معرفة وتقدّماً ووعياً في التاريخ.

من يتأمل حياتنا وكل ما يحيط بها من تقنية تأخذنا من أنفسنا ووقتنا، وتحركنا، تفرحنا،وتحزننا،وتعلمنا وتدهشنا، وتوجهنا ـ يعلم إلى أي مدى اعتنقنا هذا العالم الجديد وآمنا به تماما ومن ينظر لجموع البشر التي تسلك منهج التقنية وتسلم له وتعتنقه يجد أننا أمام شيء جيد يعتنقه الجميع وبلا استثناء من كل الأجناس والأعمار وعلى امتداد الأرض كلها، وبهذا تركت التقنية الحديثة آثارها بوضوح على وعينا الجماعي كبشر فهي تسهم اليوم بطريقة أو بأخرى، في رسم معالم حياتنا ومستقبلنا. وتدفع بنا إلى حب وهوس استهلاكي لهذه التقنية الجديدة التي دخلناها أفواجا وأفرادا، حتى لكأن الأرض تكاد تتحوّل إلى قطع متراصة من الأجهزة الإلكترونية البريئة والمغرية لنا حد الانتماء إليها.

لقد وحدت التقنية البشر، وصنعت المعجزة التي لم تصل لها الأيدولوجيات عبر تاريخها الطويل الزاخر بالصراع.

بالتقنية ومنهجها الكل يؤمن. دون صراع أو اختلاف في الوقت الذي تتنازع الناس فيه الطائفية والعرقية، فإن تقنية العصر وحدتهم بشفرة واحدة، نقلت إنسان اليوم بكل غروره وتعصبه إلى إنسان يعيش بتناغم مع التقنية الجديدة التي لا يملك حتى أدنى معرفة لتفسيرها، وأنه سواء أكان على استعداد للإيمان بها أم لا، فإن الأمر فاق قدرته على الاختيار، وأصبح هو اليوم خياره في اعتناقه بإيمان وحب كبيرين.

الذي شكل فارقا بين الأيدولوجيات ومعتنقي التقنية اليوم، هو أنها حملت لهم كل منهجهم وقيمهم وطالبتهم باعتناقها، أما التقنية فقد أوصلت الإنسان إلى درجة تطوّر معيّنة وتركته لنفسه ليكافح من أجل الوصول إلى درجات وعي أسمى، واكتشاف قابليّات كامنة بداخله، والانفتاح على أبعاد فكرية وروحية جديدة.