ذات "جنادرية" في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي بقصر الرياض، وفي برد الرياض، ألقت بي الأقدار بينهما، فأحسستني قزما بين عملاقين، يتضاءل وهو ينصت إلى حديثهما الودود، الطافح حميمية باذخة، ويتدفأ بحرارة عناقهما.

عابد خزندار وبطفولة آسرة يقدمه لي"هذا زميلي أيام الكلية، كنا نزيلي غرفة واحدة" فيشعان تبسما يخفي ظلال وجع قديم. تحدثا عن زمن طاف عليه أكثر من ثلاثين عاما، وكان وقتها عبد الكريم الجهيمان ـ رحمه الله ـ يشع هيبة وجلالا وهو يغوص في جسد نحيل، ويحميه من الزمهرير معطف أسود، وفي ثنايا وجهه تتفايض روح تضج إشراقا بالحياة. جلسا مبتهجين في ركن ببهو الفندق، بعد عناق ملتهب شوقا، وكأنني أبصرت ليالي تبادلا فيها أبياتا من شعر جاهلي، وحكايات تنسل من سفر "ألف ليلة وليلة" وقدرا من "سبحونات نجد" وحكايا الجن والعفاريت وجنون مارسيل بروست في "بحثا عن الزمن المفقود".

كانا يجسدان اختصارا لمسافة جغرافية تجمع مساحة شاسعة من مجد يتلاقى في بهائه نجد والحجاز، ويعبران عن سموق وعي تجذر في رؤيتهما.

كلاهما عاش كإنسان قبل أن يكون كاتبا أو مثقفا. وإذا كان الفرنسي جورج ديهامل يرى "أن المسرح يحتاج إلى تجارب في الحياة"، فهذا ما نجده متجليا في حياة الجهيمان، فهو إن كان قد التحق بسلاح الهجانة في مكة المكرمة في بدء يفاعته، كي يوفر له دخلا يعينه على الحياة بكل ما فيها من فاقة، إلا أنه لم ينصرف عما كانت ترتبه له أحلامه، ولم يمنعه شظف العيش من أن يقرأ ويقرأ، ليثقف نفسه، ويكون وعيا مبكرا، يفضي به إلى التفكير في إنشاء صحيفة، يدعو من خلالها إلى تعليم المرأة.

ولعل المتأمل في مسيرته، يرى أنه لم يقف في اتجاه، يسخر فيه ثقافته وقلمه لمكتسبات ونزعات ذاتية. بل سخر كل ذلك لوطنه وأحلام شعبه في حياة أفضل، سماتها المعرفة والتحضر، واستلهام الماضي "عبر الالتفات للأسطورة التي بالضرورة هي أحد أهم مكونات الوعي البشري" ليس بالانكفاء عليه والوقوع في أسره ببلادة، بل الانطلاق بروح نقدية صادقة، متفحصة ومحبة، على نحو ما كان يطرح في عموده الصحفي الشهير (المايل والمعتدل) الذي كان يكرسه للدفاع عن قيم المدنية والإنسان والإعلاء من شأنه، مما جلب له بعض المتاعب على نحو ما كان يروي بظرف، وبهجة طفلية تحدد ملامح وجهه، متذكرا عتبا من أحد المسؤولين وهو يقول له: "يا عبدالكريم كل اللي في عمودك مايل، متى نرى المعتدل؟".